تقتفي ليلى سلوم إلياس آثار الناجين السوريين، من كارثة سفينة التايتانيك. مرور نحو قرن على تلك الحادثة المشؤومة (12نيسان/ أبريل 1912)، لم يمح تفصيلاً واحداً من ذلك الكابوس. الحكايات التي تسجّلها الباحثة اللبنانية في كتابها «الحلم فالكابوس: السوريون الذين ركبوا متن التايتانيك» (دار أطلس ــــ ترجمة عباس عباس وعلي خليل)، تضيء مصائر بشر وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام الموت في أسوأ نهاية يتوقعونها. السفينة «المارد» التي تتحدّى الغرق، اصطدمت فجأةً بجبل جليدي في مياه الأطلسي فحدثت الفاجعة. حكايات كثيرة اهتمت بسير المشاهير الذين كانوا على متن السفينة، لكن لم يلتفت أحد إلى ركّاب الدرجة الثالثة، هؤلاء الذين كانوا في الطبقة السفلى من «برج بابل» العائم.

لن نجد هنا النفحة الرومانسية التي عشناها في الفيلم المقتبس عن غرق السفينة. لحظات من الرعب والصراخ والفقدان. غرقى لم يجدوا من ينتشل أرواحهم من الموت المحقّق، على بعد أمتار من قوارب النجاة. كان بوليس السفينة يطلق الرصاص على أيّ رجل يحاول التسلّل إلى القوارب المخصّصة للنساء والأطفال. بعض من نجا أخفته النساء تحت أثوابهنّ، لكنّ مئاتٍ منهم ابتلعته أمواج الأطلسي من دون رحمة.
المهاجرون السوريون (اللبنانيون) قادهم حظّهم العاثر إلى هذه السفينة. كانت رحلة الهجرة تبدأ من مرفأ بيروت إلى مرفأ مرسيليا. هناك سمعوا بالسفينة الحلم، وإذا بها تقودهم إلى الهلاك. لجأت ليلى الياس في توثيق حياة الناجين، إلى الصحف الأميركية والعربية التي كانت تصدر في تلك الفترة، كما أجرت مقابلات مع من بقي على قيد الحياة منهم، أو مع أحفادهم. ذلك أنّ الحكاية كانت تروى جيلاً بعد جيل، حتى أنّنا نكاد نسمع تلك الصرخات المتوحشة، وحالات الهياج أمام الأبواب التي كانت تعزل ركاب الدرجة الثالثة، عن سواهم تتردّد في كل مرّة. كان المهم بالنسبة إلى طاقم السفينة، إنقاذ ركّاب الدرجة الأولى وحجز قوارب النجاة لهم. لكنّ بعض مسافري القاع قفزوا من سطح السفينة إلى القوارب، غير عابئين بالتهديدات وصوت الرصاص. حين ابتلعت المياه جثّة السفينة، كان الناجون ممن انقذته سفينة «كرباثيا»، قد دفن إلى الأبد أحباءه، من دون أن يعرف مصيره اللاحق. نساء ذاهبات إلى المجهول، ترمّلن بعد أسابيع من زفافهنّ. أطفال فقدوا آباءهم، وأزواج ينتظرون على الشاطئ الآخر من دون أمل. «بالنسبة للناجين وعائلات الضحايا شكّلت الكارثة، غرق التايتانيك، انهياراً لحقيقة الحلم. وفجأة حلّ كابوس لا يُنسى محلّ التصورات المستقبلية التي أصابتها غشاوة مباغتة». وتعترف ليلى سلوم إلياس بأنّ قصصاً كثيرة ظلّت طي الكتمان، وأن ما قامت بتوثيقه في كتابها هذا يميط اللثام عن بعض المجهولين من الركّاب السوريين الذين لم يهتمّ أحد بمصائرهم قبلاً، باعتبارهم من ركّاب الدرجة الثالثة. يروي أحد الناجين حكايته قائلاً: «صرخات الموت المريرة المنبعثة عمّا يزيد على ألف حنجرة، عويل وأنين المتألمين، زعقات المرعوبين، والتمسّك المخيف بالنَفَس الأخير لأولئك الذين يعانون ألم الاحتضار الأخير، ذلك ما لن ينساه أيّ منّا أبداً».