هل تُشاهد مقاطع لتحطيم الزجاج وسحق المعادن والأحجار على تيك توك؟ إن كان جوابك إيجاباً، فما هو تفسير غرقك في الراحة والتسلية عندما تسمع أصوات التحطيم؟ تفسيري يقول إن الأمر له بُعد فلسفي. أغلب الظن أنّ مشاهدتنا لمثل هذه المقاطع قد تكون تقنيات قتالية مواربة، وانتهاكية، وغير رسمية. في كتابه «معذبو الأرض» يصف فرانز فانون كيف يوقف الاستعمار الزمنَ ويعمل على ترسيبه خلف الحواجز الذي يقيمها في المكان وكيف يحاصر المستعمَر المستعمِر بإلزامه السكن في مكانٍ بعيدٍ عنه. ترى مثلاً أن المدينة المقسّمة إلى منطقتين: منطقة المستوطنين المضيئة والنظيفة والثرية، ومنطقة يحتشد فيها الأهالي وتغص بهم كما الجرذان.
تصميم فرانسوا الدويهي

إذاً، تُفرض إعاقة تامة على أجساد المستعمَرين في العالم الاستعماري إلى حدٍّ يفقدها أي إمكانية للدفاع عن نفسها بدنياً ونفسياً ضد عنف المستعمَر. على هذا النحو، يتسمّر الأخير أمام جسده، ويشاهد العنف الممارس عليه كجسد غريب عنه رافضاً الحلول فيه، ومأخوذاً في حالة من الجمود داخل هذه حلقة القسوة. الحياة التي تدبّ من جديد في جسد المستعمَر لا تأتيه إلا عبر زمانية حُلمية، فخارج الزمن، يستطيع أحد من الأهالي أن يطلق أخيراً حركة عضلته تخيلياً، أو كما يقول فانون: «يجثوا المستعمَر وهو أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، مسترسلاً في حلم واحد خالد لا يتغير. إن أول شيء يتعلّمه الأهالي هو أن يلزموا أماكنهم وألا يتجاوزوا الحدود. لذلك، كانت الأحلام التي يحلمونها عضلية، أحلام فعل، أحلام هجوم وعدوان».
يرى المستعمَر جسدَه في المنام في حركة مستمرة. يركض ويثب ويسبح ويضرب. تنشأ لديه ذات توهّمية تحرِّف تجربته المعيشة وعلاقته بالزمان والمكان. يظلّ المستعمَر في حالة من الجمود خلال حياته «النهارية» واقعاً أسير هذا «الإعصار الحلمي» الذي يلجأ إليه في محاولة منه للنجاة من المنظومة الاستعمارية. لكن حالة الجمود هذه هي أيضاً، حالة من التوتر العضلي مكبوحة الجماح بصورة مستمرة، وهي كذلك توعّد بالانتقام لا هوادة فيه:
«هو في عضلاته مترقب دائماً هذه الرموز الاجتماعية: رجال الدرك والأبواق التي تلعلع أصواتها في الثكنات والاستعراضات العسكرية والعلم المرفرف في الأعالي، هذه الرموز الاجتماعية التي تكبت وتحرّض في آن لا تعني عنده: لا تتحرك، بل تعني: هيّئ ضربتك تهيئة جيدة».
إن هذا التوهّم بجسد يتعدى حدوده بإطلاقٍ الوجود العضليّ إلى ما لا نهاية، يُمثّل بوتقة ذاتية مَرضية مجرّدة عن أي قدرة واقعية لتصير الذات المستعمَرة، المستلبة، مجرّد شاهد قلِق على تجريد جسدها الخاص، وقدرتها (العاجزة) على الفعل، المجردة بدورها، من ماديتها ووجودها الواقعي. لكن تنشأ من سيرورة التجريد من هذه الواقعية، آلية تحرّرٍ تمرّ، بالضرورة، عبر نوع من الإحساس المنتفض، ولذلك تجيء كآلية- تحررية-موسومة بعنف لا يرحم.
ما إن تتراخى الوحشية الاستعمارية، ولو لمجرّد لحظة واحدة، حتى ينفجر الفرد الذي لم يصر ذاتاً بعد في نظرها، ويأخذ من دفاعه الذاتي، المفرط بالعنف، طابع النشوة. إن عمل العنف نفسه، الذي به وعبره يجري إخراج المستعمَر عن طوره، هو الذي يدفع المستعمَر إلى تحرير نفسه، وإلى أن يصير ذاتاً مستقلة.
مما لا شك فيه، أن الوقوع في أسر جسد شبحي تعود إليه الحركة كل ليلة، يضع صاحبه في موقف أليم. إلا أن هذا الموقف، قد يخلق نمطاً من الاستياء ذي نزعة قتالية، وتربّص عضليّ، وقد يكون استعداداً للمعركة. فالمستعمَر، كما يرى فانون: «ينتظر بصبر نافد أن يغفل المستعمِر قليلاً حتى ينقضّ عليه». ولما كان العنف الاستعماري مصبوب على شلّ الحركة، بحيث أنه لجمٌ لها، وإنتاج جسدٍ قابعٍ في قعر الذعر، ولمّا كان هذا الشلل الذي يولّده للمستعمَر، هو نتيجةَ قمع متواصل وإخضاع للمراقبة، فإنه أيضاً، علامةً على حالة دائمة لجسد في توتر دائم لا يني يعرض أمامه مشهد المواجهة المرتقبة كجسدٍ متربص. هو أيضاً إيماءة في حالة تأهب تنتظر تحوّلها إلى ضربة: «حالة غليان عضلي دائم». ولأن يجد هذا التوتر العضليّ، بالنسبة إلى فانون، منفذاً له في الصراعات بين الإخوة أولاً، ولأنه خبا وتروّض عبر «أساطير تبث الرعب في الفرد» (داخل «بنية فوقية سحرية») وتحرَّر في «أنواع من الرقص تضعه في حالة من النشوة إلى هذا الحدّ أو ذاك» فإن الدخول في صراع من أجل التحرير من شأنه أن يُرشِد، ويعيد توجيه هذا العنف الملجوم والمتخيّل والمستَشرف، محوّلاً إياه إلى عنف واقعي.
إن هذه الأشكال التنفيذية التي ذكرها فانون، أي الصراعات بين الإخوة، والأساطير والسحر والرقص، ويمكننا أن نزيد مقاطع التكسير والتحطيم على مواقع التواصل الاجتماعي، قد تفتح إمكانية ممكنة لتوجه جديد، مساره يبدأ من العنف العقيم نحو العنف التاريخي والكلّي، ذاك الممثَّل بالصراع من أجل التحرر. وعلى افتراض أن هذه النسخ المصطنَعة عن جسد متخيَّل (الواردة في هذه الأنماط التنفيذية) هي نمط تحضيري للمواجهة، نستطيع أن ندعم فكرة مفادها أن المعركة المتخيَّلة ليست نوعاً من الدّفاع الذاتي النفسي فحسب، بل نوعاً من التدريب الجسدي وتصوّراً استباقياً لمشهد الدخول في العنف الدّفاعي.
سأطلق على مُشاهدة مقاطع التحطيم والتكسير والسحق «الاستعداد الماكر للقتال». وهو استعداد لا يُقرر نتيجة الاشتباكات. يمكن النظر إليه كحركة موجّهة نحو «الذات»، شريطة أن يُنظر إلى هذه الأخيرة (الذات) بوصفها «ما لا يوجد» بصورة مسبقة على هذه الحركة الدّفاعية بل تظهر كمفعول لها، وعلى ارتباط مستمر بها. توجّه هذه الحركة الدّفاعية جميع ممارسات الذات – الجسدية والفكرية والتخيّلية والانفعالية واللغوية – نحو حالة من الدّفاع ضد الآخر. على هذا النحو، يمكن النظر إلى هذا الاستعداد للمعركة بوصفه، في آن، خالقاً للذات – الذات المحرَّضة – ومستنفداً لاندفاعاتها بما هي في موقع إكراه متواصل تبذل جهداً دفاعياً.
تقع مشاهدة مقاطع التحطيم في إطار الإلزام الذاتي الذي يمنع الإنسان من فعل ما كان أسلافه يُقبِلون على فعله. فمن السمات المميزة للإنسان المتحضر بدرجة كبيرة، أنه يمتنع -انطلاقاً من إلزام ذاتي ذي تكوين اجتماعي- عن أن يتشبث بصورة عفوية، بما يشتهيه أو يحبه أو يكرهه، فيمكن للإنسان أن يشاهد ما يحدث لكنه لم يعد مضطراً إلى اللجوء إلى العنف، وبذلك يتبدّل العنف إلى تجربة بصرية، تنبثق منها مشاعر جيّاشة، لكنها لا تتسبب في ألم. على سبيل المثال كان سكان مدينة باريس في القرن السادس عشر يشعرون حقاً بالسعادة عند تعذيب القطط وحرقها على الملأ، وكذلك عندما يقطع الجلاد رؤوس بعض المجرمين ويقطع أجسادهم إرباً. استبدل ذلك في عصرنا الحالي بما يجري داخل حلبات الملاكمة والمصارعة، وأخيراً، أي في وضعنا المعاصر، في مقاطع التحطيم على وسائل التواصل الاجتماعي. حلّت هذه المشاهد مكان المشهد الاستعراضي المروّع. فعلى الرغم من أن منافسات الملاكمة والمصارعة ومقاطع التحطيم تقتصر على محاكاة العنف المفرط، لكنها تسمح لنا بذلك أن نتخيله.
فقد أصبحت الكثير من الأمور التي كانت تثير الرغبة فيما سبق ثقيلة على النفس. فالمرء لا يريد أن يرى الدم أو أن يشم رائحته. وبالرغم من رغبة الناس في إشباع شهواتهم الخفية، لكنهم يودّون تخيّل العنف بوصفه مجرد حدث يقع بلا صوت ولا رائحة. إن الرغبة في ممارسة العنف لا تلقى قبولاً على الصعيد الاجتماعي، ما يجعل مَنْ قد يستحسنها مضطراً إلى الإقلاع عنها، ومن لا ينجح في التحكم في ذاته، فإنه مهدد بالتعرض لعقوبات، عن هذا كتب بيتر سلوتردايك في كتابه الغضب والوقت: «منذ ذلك الحين أصبح الغضب المشتعل بين المواطنين ضيفاً غير مُرَحّب بوجوده، إلا في ظل شروط صارمة، ولم يعد -بوصفه شعوراً جنونياً ذا طراز قديم- متوائماً على الإطلاق مع عالم تسوده المدنية».
يستطيع الناس في مجتمع الحداثة أن يتحرروا من المقتضيات الحتمية الأخلاقية، ويمكنهم أن ينخرطوا في أداء أدوار مختلفة، وأن يتوارى بعضهم عن أعين الآخرين، ويمكنهم أن يطلقوا العنان لمشاعرهم الجارفة في المواضع التي لا يعرفهم فيها أحد، فالسمة المميزة للإنسان في عصر الحداثة تتمثل في «ازدواجية معاييره الأخلاقية». ربما يمكن –أيضاً- القول إن الضغط الناجم عن التطابق بين البشر يقلّ كُلَّما أصبحت العلاقات الاجتماعية أقل وضوحاً وبلا هوية محددة، حيث يمكن للإنسان أن يصبح إنساناً آخر في ظل زحام المدن الكبرى.
تستحوذ أسطورة عملية المدنية والتحضر على حديثنا عن العنف استحواذاً كبيراً لدرجة أننا لا نزال نثق ثقة عمياء في الوعود الكبرى التي مَنَّى الناس أنفسهم بها في القرن التاسع عشر. نثق أن احتكار الدولة لممارسة العنف، لا يحمينا فقط من بعضنا، بل يدرّبنا أيضاً على تفادي حدوثه. هذا الاحتكار للعنف يبدو أنه لا يزال أمراً عادياً على الجانب الآخر من الحدود الأوروبية، وفي هذا السياق كتب جروبنر يقول: «إن الإنسان يحتاج إلى تكوين صورة «بوهيمية على نحو خاص» للعصور الوسطى، لكي لا يفقد التفاؤل». غير أن كبح جماح الغرائز لا يتعلّق بتمركز السلطة السياسية وتهذيب العادات، بل بالإمكانات المتاحة أمام الناس، لكي يقرروا تأييد أو رفض استخدام العنف. إذ بالرغم من أن احتكار الدولة لممارسة العنف يعد بمثابة تدبير وقائي، يحقق الحماية المتبادلة للدولة والشعب، إلا أن هذه التدابير بذاتها قد تصبح منبعاً للعنف بحال استغل الحكام المستبدون والديكتاتوريون سلطتهم من أجل إشعال الحروب. ووفقاً لما كتبه عالِم الاجتماع البريطاني زيجمونت بومان فإن عملية المدنية والتحضر أزاحت العنف فقط، في حين أنها وضعت التحكم في أدوات العنف في أيدي حفنة قليلة من الناس. فقد استطاع القليلون أن يتصرفوا في مآل تلك الأدوات وفي كيفية استعمالها. يقول باومان: «عندما تتمركز وسائل العنف وتخرج عن نطاق أي سيطرة، يمكن بلوغ أهداف لم تكن متوقعة من دون اكتمال الوسائل التقنية، ومن المنظور التاريخي فإن عدد من تعرضوا للهلاك في القرنين الماضيين إثْر عملية العسكرة تلك، لم يسبق له مثيل».
إن العنف لا يختفي؛ فهو حاضر دائماً بوصفه تهديداً مُضمراً. لا تتوقف القدرة التدميرية للعنف سوى على الظروف التي يُنَفّذ الإنسان في ظلها ويوجّهه أو يحدد مقداره. حتى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، التي تربط الناس ببعضهم، في علاقات سلمية مُفترضة، لم تعد ضماناً يكفل لهم عدم تعرضهم للعنف الذي يودي في الكثير من الأحيان إلى الموت.