إذا كان فيلم «أوبنهايمر» ينفعنا بشيء، فهو أنه ذكّرنا بأن صورة العصر الذري تتمثل بسحابة الفطر أو ما يسمى بـ«عيش الغراب». و«عيش الغراب» بما يمثله، كان يوماً من الأيام، رمزاً قوياً ومؤثّراً لكنه أصبح اليوم منسياً تقريباً لأن الظروف التي نشأ منها قد تلاشت، والعالم الذي حدث فيه قد عمدوا إلى طمسه. إن «عيش الغراب» رمز أميركي أساساً، غارق في التقاليد البروتستانتية بحيث تكون الرموز الأكثر أهمية هي، في الوقت نفسه، الأكثر غرائبية. من خلال الفيديوهات نستطيع أن نتعرف إلى «عيش الغراب»، فهو يأتي على شكل سحابة تشبه الفطر، نراها ترتفع فوق الجزر الاستوائية الخصبة في جنوب المحيط الهادئ محدثة اندفاع مياه مرتفعاً أكبر من أي مجرى مائي تنتجه الطبيعة، أو نراها تنبثق من المناظر الطبيعية الصحراوية في الغرب الأميركي، وتتفتح كالضوء ثم تختفي محطّمة أشعة الشمس القاسية في الصحراء. ومع ذلك، من المفارقات أن سحابة الفطر هذه أو «عيش الغراب» قد خلقت عصرنا وشكّلته.انطلاقاً من الصور المبكرة، فإنه من الغريب أن يتم اختيار الفطر («عيش الغراب») كرمز لوصف السلاح النووي. الإشارة إلى شيء متواضع بالحجم، وصغير جداً لا تتلاءم مع مفعول القنبلة الذرية المهوول. يبدو الأمر في الواقع، نوعاً غريباً من الإنكار. إن إلقاء نظرة على لقطات تفجير القنبلة الذرية كما ظهرت أخيراً في فيلم «أوبنهايمر» يجعلنا نرى أن شكل الفطر («عيش الغراب») ليس سوى شكل واحد تم الاحتفاظ به من بين صور عدة تمّ التقاطها للانفجار النووي.
لقد أشار أحد المراسلين مع بداية التجارب النووية في بداية الأربعينيات إلى شكل سحابة الفطر («عيش الغراب») على أنها «الرمز المشترك للعصر الذري». في ذلك الوقت، وفي حفل استقبال للاحتفال بالجولة الأولى من الاختبارات النووية، قام قائد العملية نائب الأدميرال ويليام إتش بي بلاندي بتقديم كعكة مصنوعة على شكل الفطر («عيش الغراب»). لقد كان التقدم السريع في مجال الأسلحة النووية مشوباً بمشاعر الرعب عند العامّة، والكبرياء العسكري والشوفيني عند الجيوش، وكانت القنبلة موجودة في كل مكان، مِن الكعك وصولاً إلى السيناريوهات المرعبة للـ«هيرمجدون» (معركة نهاية العالم كما تُشير القصص اللاهوتية). في هذا السياق، وعلى المستوى الثيولوجي ذاته، كتب بوب ديلان خلال سنوات 1964-1967 أغنية كان عنوانها: «خارج أبواب عدن»، يخبر فيها عن أميركا النووية التي تتأرجح ممزقة بالشك حول نفسها ومكانها في العالم، أميركا المنفية من إحساسها بالبراءة والوعد والاستحقاق، أميركا التي خرجت من «أبواب عدن» إلى عالم الخطر، والمسؤولية غير المرغوب فيها حيث نهاية العالم وشيكة، والتوق يكمن في العودة إلى الأمان. وكما أشار ديلان في أغنية أخرى من تلك الحقبة («It's alright ma»): «كان هناك ظلام عند الظهيرة» وهو نذير يحجب كلاً من الشمس والقمر؛ فها هي أميركا تقف عشية الدمار.
في أغسطس من عام 1945، ظهرت الصور الأولى للانفجار الذري على الملأ، أدرك الناس في ما بعد، أن ذلك العمود الضبابي فوق السحاب كان أول استخدام للسلاح النووي، وقد جرى ذلك في الحرب العالمية الثانية ضد اليابان، لكن في غضون أسابيع قيل لهم مراراً وتكراراً إنهم لم يروا بداية ونهاية الحرب فقط، ولكن بداية عهد جديد للبشرية. لكن القنبلة النووية التي أنهت الحرب العالمية الثانية بدت وكأنها ألغت «العقد الإلهي» بطرق سبق أن حذرت منها الروايات الأميركية القديمة. فالطبيعة الجديدة غير المستقرة ذرياً، والتي أطلقتها هذه الأمة على العالم، جلبت تهديداً بالاستئصال العالمي، وبمسؤولية النظام الدولي، فصقلت الوعي الوطني وبدأت حقبة من العلامات والمعاني والتفسيرات الثقافية المتضاربة بشدة. وحتى القرن الحادي والعشرين، لم يظهر الاستقرار الثقافي والسياسي للولايات المتحدة بل بقيت البلاد خارج أبواب عدن، تواصل تقييم إخفاقاتها وتحاول التبرئة منها وتمارس فعل التوبة والتكيّف مع بيئتها الجديدة من الشك والمسؤولية لتجد طريقة ما لإنهاء منفاها والعودة إلى النعيم. لذا كتب إيان بوروما أن «الدين كان مرتبطاً بالقنابل النووية منذ البداية». كثيراً ما توصف القنابل وتُفسَّر بلغة دينية، فقد كتب الصحافي ويليام ليونارد لورانس، الذي كان يغطي مشروع مانهاتن عام 1945، وكان يبعد عن موقع تفجير أول قنبلة ذرية في ألاموغوردو نيو مكسيكو، في 16 يوليو 1945، عشرين ميلاً فقط: «كان الأمر كما لو أن الأرض قد انفتحت والسماء قد انشقّت، وشعر المرء كما لو كان حاضراً في لحظة الخلق عندما قال الله: "ليكن نوراً، فكان نوراً"».
ويبدو أن إحياء ذكرى «عيش الغراب» أو قنبلة الفطر سينمائياً في فيلم «أوبنهايمر» يشكل نزوعاً نحو عنف لا يمكن أن يُعاقب عليه أحد الآن. فقد ساد عصر الهدوء الأميركي (الباكس أميركانا) في حقبة «نهاية التاريخ» لكن تحركات الولايات المتحدة نحو العالم زادت وازداد معها المزيد من القسوة والدمار. لم تعد القنبلة النووية هي الوعد والطموح ولكن أصبحت «مناهضة للإنسانية»، والسبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة للأفراد عبر الارتداد إلى الأساليب البدائية للعنف الذي يحافظ على الذات الأميركية. هبطت زوبعة «عيش الغراب» لتكشف عن الفردية الراديكالية، تلك القيمة الأميركية الأساسية، وطريق الاعتلال الاجتماعي. إن الانغماس في حاضر مليء بالإشعاع النووي الافتراضي يعيد سيناريوهات الحرب الباردة المكبوتة، وسرعان ما ستتخذ المُخيلة الجماعية وضع تجاذب القوى المنزوعة عنها المشاعر المناهضة للحرب. ما يعني أنه عادت المحرقة النووية بعد «نهاية التاريخ» ولكن بدون أي اهتمام أخلاقي صارخ. يمكن استشفاف هذا الأمر من خلال تأصل القنبلة الذرية كفانتازيا سينمائية، في حين أن المنتجين يعيدون إنتاج أوهام العظمة والقوة لتعويم أساطير حقبة سابقة بدّدها الزمن. في وقتٍ سابق، شكّل «عيش الغراب» النضال من أجل القوة، والاستعداد للمخاطرة بحياة المرء بذريعة «الانتصار» والتفوق في نضال إيديولوجي، كل هذا تتطلب في ذلك الجرأة والشجاعة والخيال والمثالية، لكنه كان وقتاً حزيناً للغاية، إذ كانت تكلفته البشرية باهظة. يبدو اليوم أن القنبلة النووية، في عصر «ما بعد التاريخ» تلعب دورها الجديد، إذ تعيد تقديم الواقع البشري -باعتباره عصر الفردانية الراديكالية- في صيغة: «أستطيع أن أشعر بنفسي، وأرى الآخرين من حولي دون أن أشعر بهم». ورغم هذا، سيستمر الحنين إلى «عيش الغراب»، وإلى زمن المنافسة المحمومة والصراع على من يدمر الكوكب أولاً. وعلى الرغم مِن إدراك البشرية لهذه الويلات، لكنها تتجه بسرعة لخلق عالم يشبه ما حدث عام 1929 حيث الكساد سيخيم على الجميع، والعدوانية ستأخذنا إلى الهلاك. فيلم «أوبنهايمر» مؤشر إلى أن التاريخ سيعيد نفسه مُكرّراً فاجعة «عيش الغراب».