قصّة قصيرة: «لم يحتج كثيراً من الوقت في مخاطبته مع نفسه لكي يقرّر أيّاً من الأقنعة يضع على وجهه. جهّز تنكّره الأول فلم يعجبه. أزاله، رماه، ثمّ جهّز الثاني، وضعه ووقف أمام مرآته فلم يقتنع بزيّه التنكّري الجديد. شعر أنه لا يليق به. وفجأةً، أضاءت لمبة خياله على شيءٍ متجذّرٍ في نفسه، صاحَ:«وجدتها!»...«أنا هو ذا»، أنا كما أنا وسأبقى كذلك. فلا حاجة للأقنعة التنكريّة ولا للرعب المرجوّ إيصاله منها، فكلّ ما فيّ يوحي بالرعب والأوجه الظلامية: ملامحي، سلوكي، كلامي، غايتي، نهمي. كلّ ذلك لا يحتاج مناسبة لأظهره، وإن كان لا بدّ من تمظهرٍ، فها أنا ذا مصّاصُ دماءٍ بلا مناسبة هالوينيّة. هل عرفتموني؟»
انتهى.

■ ■ ■

لا معنى لسقوط الأقنعة أو ارتدائها فالقناع وجهٌ بذاته، هو تأكيدٌ مُضاعفٌ للميل نحو الرعب، وكأنّ الرعب المبثوث من الآدمية ذاتها لا يكفي لإشباع غريزة العنف. فأنت إن لم تقتنع بوجهٍ من لحمٍ ودم حقيقيّيَن يبغيان النهش، فإنّ فلسفة القناع حاضرةٌ لذلك. اذهب إلى أي حفلةٍ تنكّرية تجد تقمّصاتٍ هائلة من الوجوه المتوحّشة والمشوّهة عن قصد بغية بثّ الخوف والرعب، وكأنكَ في سوقٍ عارمةٍ من «فانتازيا الجحيم» يكتظّ فيها الانتشاء والصراخ والنزوع لأكل الأحشاء وشرب الدماء وقضم الأرواح. القناع هو رمزٌ تتوارى خلفه نوايا متقمّصيه. الغياب عن كلّ ما يجري داخل صراعنا هو قناع: الخطاب المبتور، خطاب الـ«ولكنْ» هو قناعٌ ثانٍ. الاختباء وراء «الأمر الواقع» هو قناع آخر. إن الأقنعة كثيرةٌ وحامليها هما واحد. لأنّ جذر آرائهم ومواقفهم، وانكفائهم، وأفكارهم مشتق من بؤرة واحدة.


كنّا أثناء دراساتنا للعلاقات الدولية نعكف على بحث، وتعريف، وفهم القوة الناعمة ودلالاتها وتجلّياتها. كان من إحدى تعريفاتها الجوهرية، والتي تصبّ في سياق الحديث عن الأقنعة وما تخفيه، إنّها قفّازات حريرية فوق أيدٍ حديديّة. مثلها مثل أيّ قناع ثقافوي، أو مياعة أكاديمية، أو خطاب إعلامي يوحي بشيء ناعم غير أنه يضمر أشياءً مرعبة. الأقنعة/ الوجوه ذاتها، الحاضرة بمهمّتها الغائية بدوافع ذاتية من جهة، والمنخرطة بمهمّة تخريب الوعي والثقافة، ولا سيّما في خضمّ ما يجري من تحوّل نوعي في الصراع العربي الإسرائيلي لمصلحة الكفاح المسلّح من جهةٍ ثانيةٍ، هي وجوه مقنّعة بوجوهها، تدسُّ السُمّ في العسل عبر تعاملها الرومانطيقي مع وقائع حربنا الوجودية. يغدو خطاب السلام في مقابل خطاب الحرب وكأنّه هو الخلاص، في حين أنّ الخطاب السلمي والدعوة إليه وتجنّب الحديث عن الحرب والدفاع عن الأرض ووجودها ووجود من عليها، والانحراف عن عمق المرحلة الثورية الحاصلة، يُشير بما لا يدع مجالاً لأي تأويل وتفكيك وافتراض، أن الدعوة إلى السلام للحفاظ على ما تبقّى هي دعوة تريد أن تقنعَنا وتقنّعَنا (تضع لنا أقنعتها) بأن المقاومة ليست جدوى مستمرّة وأن السلام المزعوم هو خلاص جماعي.
ما فائدة إنتاج المعرفة، وإنتاج الفن لإرادات تقبل الهزيمة وتنكسر أمام أي محاولة استنهاض نضالية؟ أم هل يجب أن يكون السؤال: كيف يمكن للمعرفة والفن أن يلعبان دوراً أساسيّاً ويشكّلان دينامية حقيقيّة في إعادة بثّ وتوجيه الوعي بالمنطق السليم، وبالجماليات المذهلة، والمنابر الهادفة في الأمم المنكسرة للخروج من منطق الهزيمة؟ الفنّ الذي لا يتورّط في إنتاج السياقات الخاصّة به يسقط في خرافة الفنّ للفنّ. والدعوات التي تطالب بلا جدوى الكلمة أمام المأساة الفعليّة هي دعوات ساقطة. فإذا كان الشِعر بعد أوشفيتز فعلاً بربريّاً، وعملاً مستحيلاً، كما يدّعي بذلك أدورنو، فهذا يعني أنّ العمل الفنّي مهما بلغ وتدرّج في مراتب التراجيديا البلاغية، فإنّه لن يضاهي المآسي الحاصلة وسيعجز عن تمثيل الواقع بالمجاز حتّى ولو لدواعٍ أرشيفية. وإذا كان الأمر حقّاً كذلك، فما كان «شعرٌ بعد فاجعة كربلاء» كما يقول الشاعر اللبناني الراحل محمد علي شمس الدين. فالفنّ، والشعر بشكل خاصّ، ليسا ترفاً واختياراً بين الجميل والأجمل. والشعراء الذين يتعاملون مع إنتاج قصائدهم أمام مشاهد الإبادة في العالم العربي بسردية أنّ الشعر ممتنعٌ بعد الكوارث، وأن لا شعر بعد فاجعتنا، هم شعراء يمارسون «التورية» على ذاتهم بدلاً من توظيفها في خطابهم الشِعري للإضاءة على ما يحصل. إنّ تورية الشاعر لذاته هي وسيلته المقيتة الوحيدة لكي يتوارى عن أنظار قضاياه بأساليبه الإنشائية الفارغة، ولكي يتقنّع بعدها بنظرية «موت الشعر» واستحالته تجنّباً للانخراط من موقعه في قضايا مجتمعه.
في كتابه «رؤية المغلوبين» يشير ميغيل ليون بورتيّا أنّ الحضارات الأصلية للقارّة الأميركية كحضارة المايا والناهوا، كانت واعية بدرجة كافية لأرشفة تاريخها فوق المسلّات، والشفاه والصور، والأهم عبر«أناشيدها الشعرية الحزينة». يقول بورتيّا أنّ أقوام الناهوا والمايا الذين اعتنوا كثيراً لدرجة مثيرة للفضول بحفظ ذاكرة أحداثهم الماضية، لم يتركوا لفعل النسيان أن يزيل من التاريخ الحدث الأكبر، والأكثر مأساويةً وهو أخذ أرضهم من قِبل الرجال الغرباء القادمين عبر البحر، الذين دمّروا إلى الأبد أساليب حياتهم العريقة. إنّ تلك الأقوام -يكمل بورتيّا- وجدت أن التعبير الطبيعي عن ذلك يكمن في مقدرة الشعراء الذين بقوا على قيد الحياة، على كتابة الأناشيد الحزينة التي تؤرّخ للأجيال اللاحقة عن كيفية ضياع الشعب المكسيكي وكيف حوصرت أراضيهم في «تينوشتيتلان». «في الطرقات ترقد سهامٌ مكسّرةٌ وشَعرٌ بشريٌّ مبعثرٌ/ البيوت صارت بلا سقوف وجدرانها محمرّة/ الديدان تتزاحم في الشوارع وعلى الجدران أدمغةٌ ملطّخة/ المياه صارت حمراء كما لو أنّها مصبوغةٌ ونشربها كأنّنا نشرب ماءً أَجاجاً/ لقد أجَنَ الماءُ والطعام/ وميراثنا شبكة من الثقوب/ آهٍ! إلى أين نحن ذاهبون يا أصدقائي؟/ لقد مضى المكسيكيّون عبر البحر/ الدخان يرتفع والضباب ينتشر/ هل ما يجري حقيقة؟/ ابكوا يا أصدقائي/ وليكن في علمكم أنّنا هكذا قد خسرنا الأمّة المكسيكية». بهذه الأنشودة الحزينة، المكتوبة عام 1523، يبرز بُطلان الفنّ للفنّ، وكلّ ادعاءات استحالة الشعر بعد الكوارث. هكذا عرفت الأجيال اللاحقة للشعوب الأميركية الأصلية كيف سُرقت أراضيهم ودمرت ثقافتهم. كان شعراؤهم المنخرطون في عملية إنتاج الوعي التاريخي حاضرون في ذلك في مقابل سرديات الأوروبّي الذي وكّل نفسه ليفتح «أرضاً بكراً ويقضي على الهمجية فيها».
دعونا نفهم المسألة من زاوية أخرى. إنّ المواربة والاختباء خلف قناع «الفنّ الخالص» أو تجريد الفنّ من مهامه بعد النكبات هما كما يبيّن لنا الفيلسوف الإيطالي جادامر في كتابه «تجلّي الجميل» أصل اغتراب الوعي الجماليّ المعاصر. فلو كان الفنّ شكلاً جماليّاً وحسب، لكان معنى ذلك أن خبرتنا بالفنّ ستؤول إلى خبرة بالإحباط بمجرّد أن نرتدّ إلى الواقع وعالمنا المعاش. ما يعنيه جادامر أن العناصر فوق الجمالية للعمل الفنّي التي تتعلّق بمضمونه ودلالته على العالم المعاش من دين، وأخلاق، واجتماع، وسياسة، إذا تمّ تجاهلها من قبل مبدع العمل الفنّي فلن نتجاوز مسألة اغتراب الوعي الجمالي الذي سوف يبقى بهذه الحالة ميّالاً إلى عزل الجميل عن تجلّياته في الواقع والتاريخ ودنيا الحياة الإنسانيّة. وإن تقصد ممارسة فعل الاغتراب كما سلف، يتشابه من حيث نمط السلوك مع فعل وضع الأقنعة للتخفّف من عبء المرحلة وضروراتها ومضامينها، التي تنحو بالضرورة صوب ملء أي موقف بهوية معيّنة. وأفترض، كما تجري العادة، أنّنا بهذه المقاربة نستطيع فهم ما قاله هايدغر إن «الخبرة هي العنصر الذي يموت فيه الفن». مغزى كلام هايدغر هو أنّه يرفض النظر إلى العمل الفنّي من جهة الخبرة الذاتية لدى كلّ من المبدع والمتلقي، أي عندما تتحوّل الخبرة بالفنّ عند المبدع إلى مجرّد تلاعب بعناصر الشكل الفنّي المجرّد، وعندما تتحوّل عند المتلقي إلى مجرّد استمتاع بهذا التلاعب. هكذا، يحدث نسيان للحقيقة التي يمكن أن يقولها الفنّ وبعبارة هايدغرية يحدث «نسيان الوجود ذاته». وبذلك يضيعُ أصل الفنّ وهويته ومعيار تمييزه. وهايدغر لم يركز بشكل اعتباطي على الشِعر إلا لأنه أكثر فنون الأدب تعبيراً، ليس فقط عن خصوصية ترتبط بشعب ما أو قومية معيّنة، بل ترتبط أيضاً بروح العصر، أو الفترة التاريخية التي يحياها شعبٌ ما. بهذا الفهم تحديداً تصبح الخبرة الذاتية قاتلة لأي عمل فنّي، لأنها تفصله عن العام والمؤثّر والضروري. والشعراء الذين يستميتون وراء تلك الخبرة الموصوفة بشكل حصري، هم شعراء مقنّعون، وينبغي إعادة النظر في إنتاجهم. باختصار، إن الشعر ليس شيئاً يقال، بل من خلاله تقال الأشياءُ.
والآن، إذا كانت فلسفة القناع وصمة غير أخلاقية وتلاحق الزيف لتبثّه وتستميت لتفعل ما لا تقول ولكنّها تقولُ ما لا تفعل، فإن فلسفة «اللثام» هي النقيض الجذري، والثوري، والراديكاليّ للقناع. يصف موشيه سميلانسكي وهو أديب صهيوني بارز العرب بالتالي: «..تبرز أنوفُهم الخطافيّة من بين أغطية الرؤوس كمناقير الطيور الحادّة، وعيونهم متوهّجة وكأنّها كانت في النار». سميلانسكي العنصري الصهيوني، يصف شكل الإنسان العربي الذي يلفّ رأسه بالكوفيّة، ويظنّ أنّه يحطُّ من شأنهم ويهينهم بذلك. أتخيّله وهو يرى ملثّمنا أبو عبيدة وأصدقاءه، الذين أهانوا دولته المزعومة، لربّما يرى مرّة أخرى كيف تكون العيون المتوهجّة الناريّة التي لم تعجبه، ويرى كيف لغطاء الرأس، الكوفية هنا، رمزية ثورية وثقافية تدخل مثلها مثل السلاح إلى الميدان، وبها نُعرف ويخشانا العدوّ. إنّ فلسفة اللثام التي يؤكّد المقاومون الملثّمون عبرها على ما تقوله فيروز «عينينا هنّي أسامينا». هذا ليس وشاحاً مثل أي وشاح، ولا قناعاً استعراضياً نتوارى خلفه ونتنكّر به. إن فلسفة اللثام هي الدعوة الدائمة التي لا يتقادم عليها الزمن. دعوة دائماً ما تفتّق ذهن فلاسفة النضال عليها، وهي دعوة مرتبطة بضرورة «توطين المقاومة» على حدّ قول سيف دعنا. والتلثّم بالكوفية، بالرمزية التي تحملها، فهي فلسفتنا التوطينية الحقّة وخطابنا الصادح في الحفلات المكتظة بالوجوه المقنعة.