«تأخرتِ أنتِ والقيامةفاستبدَّت بأيامنا الحيرة،
أبدى لنا العيد مزاجَهُ العكِر
والطمأنينة التي لم تَصعد بعدُ
من القَبوِ
تأخرتِ أنتِ والقيامةُ
امتلأتِ الحياة
حياتُنا
بجثثِ الأفكارِ»- أحمد راشد.


تعود جذور عيد الهالوين أو عيد الهلع إلى طقوس وثنيةٍ قديمة، عادت وانصهرت مع الحضارة الرومانية، ثم أخذت الملامح الذي نعرفها عقب التحاق هذا العيد بالـ«عالمية»، متبلوراً كعيد معولم، مصحوباً باحتفالات كرنفالية بدعم و ترويجٍ رأسمالي. يقدَّم هالوين أو عيد الهلع على أنه طقس عالمي له خصوصيته في الملبس وفي الاحتفال. يعيش الفلسطينيون منذ 20 يوماً عيد هلع من نوعٍ خاص. تحتفل حضارة السلتيك في نهاية الصيف بخروج أرواح الأموات لتختلط مع البشر، غير أن في فلسطين يتعايش الأموات مع الأحياء في كلّ يوم، بل يعيش الأحياء يومياً مع الموت ذاته. لا تتنقل الأرواح حولهم لتبث الرعب، فالحياة وحدها كفيلة لإتمام هذه المهمة.
تُقتل عائلات كاملة في فلسطين. جميع أفراد الأسرة يخضعون للإبادة. أطفال بأحلامهم وتطلعاتهم ومستقبلهم يلقون حتفهم، فلا رومانسية في الفناء، ولا معنى لعيد هالوين عندما ترى الجثث متراصّة فوق بعضها البعض، والأموات يحضنون بعضهم. وجوه هالوين المتنكّرة تخرج للإزعاج وإخافة العامة، تريد أن تبدو وكأنها أرواح شريرة كارهة لحياتها وتحمل قوة اللعنة بيد أن أرواح أبناء، ونساء، ورجال فلسطين وأجسادهم المقتولة بكل الطرق الوحشية هي الشبح المزعج الذي يُفترض أن يجوب حاملاً اللعنة فوق العالم بأسره. على هذه الأرواح أن ترقد بسلام، وعليها أن تقلق ضمير العالم وأن تعذبه.
تعيش فلسطين كل ما تصوره الأفلام الهوليودية المرعبة. تلعب إسرائيل دور الجيران والأطفال المزعجين في فيلم «المنزل المتوحش»: مجموعة من السخفاء تزعج وتضرب وتؤذي زوجين عاشقين بعد أن اقتحموا أسوار منزلهما. تموت الزوجة بعد أن ابتلعتها صقالة عمارة المنزل فتتحول روحها إلى وحشٍ كانتقام على بشاعة موتها، فتُلام مع زوجها لأنهما دافعا عن أنفسهما. نرى مثالاً آخر من فيلم رعبٍ تتطابق أحداثه إلى حدٍّ ما مع حفلة الهلع التي تعيشها فلسطين. في فيلم «بارانورمال» نجد تشبيهاً مكثفاً لما نقول عنه «الطفيلي». وبالمناسبة إن الطفيليّ هو الوصف الأدق لوصف إسرائيل. فالطفيلي هو كائن غير مرغوب به، لا يعيش سوى على حساب غيره، يستغله استغلالاً تامّاً، يمتصه، ويضعفه حتى يستنزفه، وعندها ينتقل إلى غيره للقضاء عليه. لا يمكن للطفيلي أن يعيش ولا أن يستمر في العيش من دون أن يكون عيشه قائماً على حساب الآخر. في فيلم «بارانورمال» تموت البطلة «كورتني» جراء أفعال عنيفة نابعة من الهستيريا الدينية التي يمارسها سكان مدينتها. ينبثق من جثة «كورتني» شبحها، هو أثرها، هو الأثر الذي بقي من قصتها الحزينة، وشبح «كورتني» مزعج، يطوف مراراً و تكراراً في كل مناسبات الأعياد التي تُقام في المدينة ليذكر ويندّد دوماً بالبشاعة التي انتهى وجودها إليه. وكأنّ ظهور شبحها يحاول الانتقام، وليس البكاء أو الاستنجاد ولا كسب التعاطف.
يأخذ الهلع في فلسطين أكثر أشكاله فظاعةً وأعنف درجات الواقعية. بدلاً من تزيين البيوت برموز وكليشيهات تدل على الرعب، فالبيوت تُدَك على رؤوس أصحابها، تدمّر وتسقط على الأرض، ليكون الحطام هو سمة الأحياء، لأن الحطام يحتوي على أثر ساكنيه. هنا لا حيوات مؤجلة، الحياة مبتورة فقط. صور وذكريات وأماكن سكن امّحت، كأنها لم تكن، فلا جماليات المكان و لا فلسفة تنفع لتبرير وتفسير حقيقة ما تراه عيناك. مع ذلك يتخذ العالم سلوك «كم هو صعبٌ أن أرى ما هو ماثلٌ أمام عينيّ» ولكن المقصود هنا ليس ما قصده فتجنشتاين بتعبيره ذلك حين تكلم عن غرابة البداهة، إنما القصد من المقولة هو التجاهل وتكذيب هول ما يجري، وقد يكون هذا التجاهل والتكذيب عبر الصمت. وضع دانتي في «جحيمه» المحايدين الذين لم يمارسوا الخير ولا الشر في أسوأ مكانٍ. كان دانتي يعلم أنهم لن يستطيعوا عبور العتبة والوصول إلى الجحيم، حتى لا يفاخروا على قاطنيه ولن ينعموا بالفردوس حتى لا يلوثوه. من «اختاروا ألا يختاروا» بتعبير سارتر فقد اختاروا، وقرروا أن يكونوا إلى جانب الظالم وهم يدعموه بأخلاقياتهم الساذجة وصمتهم الصاخب.
لقد اعتاد المزارعون في مناسبة هالوين بالنسخة الإيرلندية على ارتداء أقنعة برؤوس حيوانات حتى لا تعرف الأرواح أنهم بشرٌ، بالتالي لن تستطيع أذيّتهم. لا يحتاج الفلسطينيون إلى أقنعة مرعبة لإخافة العالم وتعكير مزاجه، ولا الأزياء التنكّرية للاحتفال بالأعياد. هم بأكفانهم البيضاء، ووجوههم التي يتآكلها الوجوم، وأتربة رمادية اللون غطت أجسادهم إثر القصف المستمر. لم يفلح ليفيناس عندما دعا إلى رؤية الخير والحب المتبدّي جراء النظر باتجاه وجه الإنسان، ولا سينكا فى رسائله إلى لوسليوم حين قال إن الإنسان موضع تبجيل في عين أخيه الإنسان، إنما تتربع رؤية هوبز للبشر كذئاب وكائنات مفترسة؛ الهوبزية بوصفها التفسير الكافي لهمجية الإسرائلي وسياق تعامله مع الآخر. إنّ قباحة ما يجري يومياً في فلسطين هي الحقيقة الأشد رعباً التي لم ينتبه، أو تم الانتباه إليها وغضّ النظر عنها، كلّ الفلسفة والجماليات وقصص الأدب.
تتشابه المفرقعات والألعاب النارية في مناسبة الهالوين مع الصواريخ و المتفجرات التي تدمّر مستشفى، ومدرسةً، ومخبزاً. هذا ليس مجازاً، ولا مبالغة، ولا حتى عيداً احتفالياً، هو حقيقة واقعية. يتجمع المستوطنون المحتلون عند كل قصفٍ جديد ليستمتعوا بالأصوات والنيران المشتعلة جرّاء القصف الذي يستهدف الأحياء. يصفّقون ويهلّلون ويحتفلون بسعادة. تكتمل أجواء الاحتفال الهالويني مع الحصار المفروض على الأبطال في فلسطين. تماماً كمنزلٍ موجود داخل غابة شاسعة وأصحابه قد أسروا من قبل قاتل متسلسل ولا أحد يساعدهم في الخروج والفرار بعيداً، ولا أحد يفكّر كيف ينقذهم. هكذا، سنرى أبطال الفيلم يُقتلون تباعاً، لكنها لن تكون النهاية لأنّ القاتل مهما كثرت ضحاياه، فسيُفتح له في نهاية المطاف باب الجحيم. لا يُفتح لفلسطين معبرٌ لإدخال الطعام والوقود والدواء، ولا يفتح أحد فمه لإيقاف الإبادة. لكن هذه المرة ستكون الأخيرة، سيفتح باب الشمس، سيدخل منه الفلسطينيون، سيُلقى السفّاح في الجحيم، أما المذعنون والمحايدون فمصيرهم ذلك المكان الأسوأ.