تعليقاً على فداحة المجازر الوحشية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة وسط سكوت العالم وتفرّجه، كتب الفيلسوف الإيطالي جيورجبو أغامبين في 30 أكتوبر مقالاً بعنوان «صمت غزة» في مجلة كودليبت الإيطالية الذي ينشر فيها بصورة أسبوعية. أورد أغامبين في مقالته جملتين تلخّصان فعل «مشاهدة» الإبادة الحاصلة: «علماء من كلية علوم النبات في جامعة تل أبيب سجلوا بميكروفونات حساسة للموجات فوق الصوتية صرخات الألم التي تصدرها النباتات عندما يتم قطعها أو عندما تفتقر إلى الماء. في غزة لا توجد ميكروفونات». أغامبين الذي بنى نظرته الفلسفية حول الإنسان الحرام و«الكائن المستباح»، واهتمّ بآليات وكيفيات تجريم من هم خارج الأطر الإنسانية، استحضر النبات في مقاربته تلك واضعاً إياها مقابل البشر، والتكنولوجيا الحديثة القادرة على الإنصات مقابل التجاهل البشري المتعمّد، ليس بغية خلق مقاربة جماليةٍ متفذلكة إنما للاستدلال، مستعيناً بالرمزية، على واقع «مشاهدة» الإبادة، واستهلاك مشهديّتها كموضوع قيد النقاش من دون أي محاولة جديّة لمواجهة حقيقة أننا أصبحنا، بفعل تغييب «الميكروفونات»، نحاول فقط البحث عن صرخات الألم.في كتاباته السابقة، ركز أغامبين على ما أُطلق عليه «حالة الاستثناء»، وهو مفهوم قد ابتدعه ووظفه في الكثير من الأحداث التي جرت عقب أحداث 9 سبتمبر.


و«حالة الاستثناء» هي نظرية تتقاطع مع ما هو سياسي وبيوسياسي وقانوني، يتمترس أغامبين وراء هذه النظرية باعتبارها عدسة نقدية تتيح له رصد ديناميكيات الحكم المعاصر، وأسئلة الحريات الفردية، التي يراها بالضرورة، محاولة غربية لامتلاك الفرد عبر إقصائه من جماعته أياً كانت هذه الجماعة. فـ«حالة الاستثناء» تقوم على فكرة مفادها أنّ السلطة السيادية التي تمثلها الدولة غالباً، تتميز بقدرتها على تعليق أو تجاوز النظام القانوني والسياسي في وقت الأزمات أو عند حدوث أي ظرف طارئ، بالتالي، يتضح أن «حالة الاستثناء» بمثابة عالم موازٍ لعالم النظام الدولي بما في ذلك شرعة حقوق الإنسان الذي تُعلّق الضمانات القانونية العادية وتدابير الحماية التي يحق للأفراد التمتع بها على نحوٍ متساوي. وفي هذا العالم الموازي، يُختزل الأفراد إلى ما سمّاه أغامبين «الحياة العارية» بمعنى أنهم متواجدون خارج النطاق الوقائي للقانون، ويجردون من حقوقهم، وبالتالي يصبحون عرضة لسلطة الدولة غير المقيدة. ليست كتابات أغامبين عن «الاستثناء» بعيدة عن واقعنا أو عن حاضرنا. لقد استلهم المصطلح أساساً من فلسطين ومن الفلسطينيين في لبنان، ما يعني أن تفتيشه عن «الاستثناء» موجود في واقعنا وفي الحيّز الذي نعيش وسطه. فالموضوع الفلسطيني هو القضية التي لم يعرّفها أغامبين بأنها تنتمي إلى حالة «الاستثناء» فقط بل إنها، بنظره أيضاً، سؤال لا يمكن الإجابة عليه من موقع التصالح أو الخنوع. بمعنى إما أن تكون بموقع الرافض أي المستثنى، أو من دون أي موقع على الإطلاق. حتى تفهم موضوع فلسطين، لا يمكنك قراءتها من منظور الحشرية المعرفية: إما أن تكون مع «الجانب» المقاوم أو لن يكون لديك أي فرصة لفهم بديهيات القضية.
لقد انطلق أغامبين بتركيب مفهوم «الاستثناء» انطلاقاً من كتابات غير منشورة (ومخفية عمداً) للفيلسوف الألماني والمنظر لمدرسة فرانكفوت والتر بنيامين. الأخير فيلسوف يهودي، حادثة موته كفيلة للتعريف به: انتحر بنيامين على الحدود الفرنسية - الإسبانية بعد أن كان لاجئاً هارباً من احتلال النازيين لفرنسا. حاول بنيامين خلق صيغة حرفية للفلسفة، بجعلها سؤالاً يهم الجماهير، وكتب عن التاريخ من منظور سيرورته، أي التاريخ كمسار تراكمي معرفي يخلق فلسفته بعيداً عن النظرة الميكانيكية التي ترى التاريخ بأنه تسلسل زمني للأحداث. وجد أغامبين في بنيامين «الاستثناء»، وهو فعلاً كذلك، ليس فقط في أطروحته الفلسفية في ذلك الوقت، بل في رفضه للانتماء للصهيونية. وقد عرض على بنيامين الانتساب إليها مراراً: مرة بوصفها حركة سياسية، ومرة عندما قدّمت نفسها كمجموعة خيرية في وسعها مساعدته للهروب إلى فلسطين والفرار من جحيم النازية. وبينما هاجر أصدقاؤه وزملاؤه واحداً تلو الآخر إلى فلسطين، كتب بنيامين عن التناقض المادي للجوء الذي يخفي في طياته احتلالاً. ولربما، هناك عبرة ما، في أن يرى أغامبين في كتابات بنيامين مساراً يناقض الاتجاه الفكري الذي ساد في دائرته الفلسفية آنذاك، وهي الاتجاهات نفسها التي خرجت فوراً لتأييد إسرائيل بعد عملية الطوفان الأقصى. ولربما هذه البديهيات التي تطلبت من أغامبين التعرف إلى كتابات بنيامين، اليهودي المرفوض، والعمل مع هايدغر لاحقاً، النازي الهارب، ليست سوى محاولة منه- محاولة تشبه من تأثر بهم ومن يعتقد أنهم يشبهونه-- لخلق ميكروفونات لما لا يرى.
في الساعات الأولى من 7 أكتوبر، بدأت الكتابات تتدفق وتركز على خلق نسخة جديدة، إسرائيلية هذه المرة، من 11 سبتمبر، ذلك لمواصلة حجة العنف المستمر الذي يطارد حياة المستوطنين. وبعد يوم أو يومين فقط، وإثر الخلط الممنهج من قبل الوسائل الإعلام الغربية في اعتبار حماس مرآة لداعش، أخبرنا عالم «الدياسبورا» أي «الغربيون المتنورون»، بأننا أصبحنا الآن، جميعنا، في دائرة 11 سبتمبر جديد، ما يعني العودة إلى عصر الحرب على الإرهاب. في الوقت نفسه، وقع المشاهدون في متاهات عدّة. أخبرنا الإعلام بأن المستوطنين يعيشون بسلام، وهو نقيض لحجة الموت، وأن حماس نفذت هجوماً إرهابياً مفاجئاً، بطريقة تفوق كل العمليات الفدائية التي جرت ضد المستوطنين في العامين الماضيين، وأقسى مما جرى في معارك جنين. ومن ناحية أخرى، كان المشاهدون يخبروننا بأن كل ما يحدث ليس إلا، في جوهره، الحق في المقاومة، والحق بحمل السلاح، واستحضروا من التاريخ الكثير من «أفعال» المقاومة: من الجزائر إلى جنوب أفريقيا. وعليه، فإنّ المقاومة في فلسطين هي أيضاً امتداد للنضال ما بعد الكولونيالي. ومع هذا، ففي الأيام الأولى، لم يستطع المشاهدون التعبير بوضوح عن تموضعهم، فكان يشوب خطابهم بعض الأقوال المتناقضة. بيد أن هذا التناقض كان محصوراً عند المشاهدين فقط، بينما كانت «القوى العظمى» في اصطفافٍ، وتنظيم، واتساق، ومتوحدة أكثر من أي وقت مضى. إنّ ما يوحد الغرب اليوم ليس هدفه حماية نفسه من تهديدٍ يمسّ وضعه الحالي، إنّ اتحاد «القوى العظمى» الغربية المتين هذا هو لحماية وصون ما كانت عليه أوروبا في السابق، والتي تمثله اليوم إسرائيل.
بكل الأحوال، إنّ استعارة 11\9 ليست إلا محاولة من النظام الإعلامي الغربي لوضعنا تحت معاييرهم، والانطلاق مما يعتبرونه من البديهيات، ونقاط البداية المرسومة والمحددة سلفاً، أي في أسرنا ضمن قانونهم الخاص الذي ينّص على أن ما يحدث لهم هو معيار القيمة، وله صفة، وكل الأفعال تقارن وفقاً له، وتحكم بناءً على ما يجيزه وما يمنعه. وحتى عند اعتراف الإعلام الغربي والحكومات الغربية بأن قتل الأطفال في غزة «قد يكون سيئاً» فما زال ممنوعاً علينا أن نحوز على الحد الأدنى من وجعهم (سواء اختبروه في الولايات المتحدة أو في إسرائيل). بالنسبة إليهم، إنه عهد إرهاب جديد، لكنّ الجناة تغيروا نسبياً. لكن بالنسبة إلينا، إنه امتداد لإرهاب عابر للحدود، واستمرارية له، أما الجناة فلم يتغيروا أبداً. وبما أنهم يدفعوننا إلى الانطلاق من بداياتهم، والعيش وفقاً لمعاييرهم وأحكامهم، فمن حقنا أن نسأل، من هو الأميركي من دون 11\9؟ ومن هو الأميركي من دون قاعداته العسكرية المنتشرة في منطقتنا؟ وفجأة تبذل الملايين من الدولارات على مُنحٍ «معطاة» لشعوبنا لكي ينخرطوا في عوالمهم وقضاياهم. لم يعد ذلك مهماً، فاليوم عاد الشرق الأوسط إلى موقعه بوصفه ذاك العالم الغريب والغامض والمبهم، وحدوده الجغرافية غير واضحة. إنّ «أزمة الشرق الأوسط» تعود بحلّة جديدة مع تكنولوجيا متطورة ويمكنك متابعتها على تيكتوك. مع ذيوع خطر 11/9 بالنسخة الجديدة، يُعيد الأميركي فإذاً، طرح علّة وجوده/ احتلاله: هناك خطر وجودي يهدد الإسرائيليين، ولا يمكن غض النظر عن الموضوع. لكن الواقع الذي نعيشه، وليس ذلك التي تبثه الشاشات ويخلقه الإعلام الغربي ونشاهده، هو أكثر وضوحاً. لقد سقطت حقبة 11/9 مع بداية 7 أكتوبر، هناك اليوم إعادة تكوين للذاكرة الجماعية للعالم: إنّ وجودهم يحتاج إلى تبرير ولذلك وجد 11/9، ووجودنا يتطلب أولاً مقاومة لذلك كان 7 أكتوبر.
ولكن مشاهدة الإبادة مثل أيّ متفرج سلبيّ يذيب كل الأسئلة. عندها نصبح عالقين في شرك المشاهدة لأجل المشاهدة، وفي الوقت نفسه، نصبح عالقين في الزمن، في صعوبة معرفة التاريخ من دون العودة إلى نقطة الانطلاق الخاصة بنا، وليس نقطة البداية التي تخص «القوى العظمى» والتي يريدون منا أن ننطلق منها. وذلك لأن قواعد الزمن لا تنطبق على الموت الذي نشاهده ونحن عاجزين عن إيقافه. وقواعد الزمن لا تنطبق أيضاً على المقاومة. المسألة معكوسة هنا: إننا من ننتظر موعد حدوث المقاومة، ونحن من في حالة انتظار. عندها تنكشف الوجهة فالمقاومة هي بوصلة الزمن والسيرورة.
في «حالة الاستثناء» يجعل الإعلام من الواقع استثناءً منذ البداية، أي عند بداية الحدث، ثم نبدأ في تقبّله. ولكن هذه المرة، فشل الإعلام بذلك. لقد أدى هذا الاستثناء، 7 أكتوبر، إلى استثناء لقاعدة الاستثناء نفسها. في العودة إلى سؤال الاستثناء، لقد استلهم أغامبين من كارل شميت نظريته التي تدور حول سؤال السيادة في حالات الاستثناء. ورأى أنّه في حالات «الكوارث» نظن أنّه بإمكاننا الخروج عن القانون، إذ تُعلّق قوانين سابقة أو كتابة قواعد جديدة، ولكن في الحقيقة، كل هذا ليس إلا محاولة فرض السيطرة وتأصيلها كحقيقة، غير أن هذه السيطرة بالذات هي مجرد وهم. إنّ الواقع يخبرنا بأننا لا نطبق القوانين بحذافيرها إلا في الظروف الاستثنائية. فسؤال السيادة والقانون يعود بالأصل إلى حالة الاستثناء، عندها تطوف القوانين التأسيسية التي أوجدت أيّ نسق إلى السطح. وهذا ما يفسّر عودة «الشمال العالمي» إلى أصله وأساسه: مستعمِر يدافع عن قاعدة عسكرية متقدّمة له في «الشرق الأوسط المبهم». وفي العودة إلى «استثناء» أغامبين، فهو ينطلق أصلاً من شريان القضية الفلسطينية أي مخيمات اللجوء، لتفسير الاستثناء الفلسطيني. يرى أغامبين في المخيمات أن المقاومة متوازية مع التهميش، ولا يركز في تحليله على المعاناة. يرى في المخيمات اختزال الإنسانية إلى «الحياة المجردة»، وفي «الحياة العارية» يرى نشوءاً للمقاومة من دون أي عقبة تردعها. لكن عندما تكون في حالات الإقصاء، ما معنى أن تندمج وتنصهر ضمن ما يعرف بـ«الإنسان المعاصر»؟ هنا، تصبح المخيمات ساحة متناقضة، داخل وخارج النظام السياسي-القضائي، وتعمل بمثابة حضور مقاوم يشكّك في صلابة الهياكل القانونية. بمعنى، الحالة الفلسطينية، بشكلها المقاوم، تخرق النظام العالمي ليس في كونها استثناء فقط، بل بكونها تمثل التجريد الحقيقي لما يعنيه الانخراط في النظام القانوني. وإذا ما استعرنا مفهوم أغامبين لنقرأ ما يحصل اليوم، يبدو أن الاستثناء الفلسطيني أتى هذه المرة على صورة «مفاجأة» في عالم يغرق بالمعلومات، والداتا التنبئية... في زمن يحكمه الذكاء الاصطناعي وأجهزة الرقابة الدائمة، تمكنت المقاومة الفلسطينية من اختراقها، بأجسادها المجرّدة وباللحم الحي.
يصعب على الفلسفة الغربية الغارقة في التضادات حول ماهية الواقع التي تطرح في أسئلة معقّدة على شاكلة: هل هو في المنطق أم العاطفة؟ العقل أم الجسد؟ المادة أو المجرد؟ فهم العالم من دون محاولة خلق مقاربات خارجة عن المنطق الذي يتمسكون به، لأن طبيعة البحث مختلفة، مهما حاولوا تبني مفاهيم مثل «التقاطعية» و«النسبية». فالإذعان لهذه الطروحات يؤثر على الحياة اليومية، ولذلك من الطبيعي، أن نجد أنفسنا عالقين في فعل «المشاهدة» نبحث عن ميكروفونات بإمكانها أن تُسمعنا الألم مندون أن نفكر فعلياً كيف يمكننا أن نكون جزءاً من الفعل المقاوم. 7 أكتوبر لم يبلور فقط فكرة الاستثناء في حالة المقاومة بل أيضاً أعاد مقاربة الحكاية الأصلية نداً لندّ مع البث المباشر، والمعلومات المائعة التي تضمر في طياتها استعماراً. لقد بات الجميع ينتقي كلماته بحذر، إما لحماية نفسه أو لحماية القضية، وهذا لأنّ المقاومة، باستردادها للحكاية، تحافظ على إرثها، لا من جهة العنف فقط، بل أيضاً لأنها بناء تراكمي للخبرات. لا يمكن للعالم الغربي، وهو أحادي حتى بالمنهجية وآليات البحث، فهم سيرورة المقاومة، فمن الأجدى بالنسبة إليه إذاً، تحويلها إلى 11/9 والانطلاق من هنا. إنّ من يريد فهم سياق المنطقة اليوم عليه فهم مفهوم المقاومة وتمظهرها، بدلاً من دراسة الشرق الوسط كجغرافيا فرضها العالم الغربي تمتاز ماهيتها بفانتازيا من وحي خياله وإعلامه. إنّ الاستثناءات تخرج منّا دوافع داخلية، واستثناء 7 أكتوبر بالتحديد، يعرّف بنا. استثنائياً: إنّ المقاومة وحدها تمنح القضية عدالتها وحقيقتها بعد أن عرّت عالم «السيادة والحق» من أقنعته.