أجاز مجمع اللغة العربية في التاسع من أيلول 2023 استخدام لفظتَيْ «الترويقة» و«الترِنْد» (جميلة وهي محرّكة، أليس كذلك؟) وجمعهما: «الترويقات» و«الترندات». أو بتعبير آخر قامت شرطة المجمع اللغوي الضنينة على سلامة اللغة العربية، بتحرير المفردتين من أسر علامتَيْ التنصيص، وسمحت لهما بولوج اللغة؛ منحتهما الإقامة، لينقسم أهلها بين مرحّب بالضيفين ومتعامل معهما ومخاصم ينظر إليهما بازدراء، نظرة الأصيل إلى الدخيل. وبعد مدة عند اعتمادهما في المعاجم، ستمنحان الجنسية، وتصير كل منهما مفردة «فصيحة». عرّف المجمع «الترويقة» بأنها ما يؤكل ويُشرب في الصباح على الريق. وهي كلمة يطلقها أهل الشام على وجبة الإفطار (وفق المجمع)، وهي على وزن تفعيلة، وقد اكتسبت دلالتها من الممارسات الاجتماعية وتفاعلات الناس اليومية. وهي من الفعل روّق، والرّوْق من كل شيء مقدَّمه وأوَّله.ومقدّم وأوّل ما يجري اليوم في فلسطين ليس السابع من أكتوبر، السابع من أكتوبر ليس كلمة منزوعة من السياق، ليس ورقة منفصلة منزوعة من رزنامة التاريخ، و«التاريخ -وفق هيغل- هو المذبح الذي ذبحت عليه سعادة البشر، وحكمة الدول، وفضيلة الأفراد». وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت للجميع مشاركة مقطع صوتي تلاه المعلّق الرياضي عصام الشوالي في مناداته لكاتب التاريخ، والطلب منه أن لا يغلق الصفحات، وأن يتنبّه ويُذعن للحقيقة؛ أن يغمس ريشته بحبر الدم ويكتب أن النصل الفولاذي للمقصلة مع التطوّر بات ينزل على مدن بكاملها ومن دون محاكمة ولو شكلية. والناس الذين يحتشدون لمشاهدة عرض الإعدام ما زالوا أوفياء لعادتهم، والعولمة جعلت ساحة الفرجة على مساحة الكرة الأرضية. لقد حذّر ابن خلدون المؤرخين من الأغلاط، ومن توجيهاته عدم تصديق كل ما يسمعونه والتحقق من صحته، وعدم انحيازهم والتزام الموضوعية، فيما نشاهد اليوم القنوات التي كانت تُعدّ معياراً للموضوعية، تنقل الحدث وهي بذلك تؤرخه، وهي تُحرّف الحقائق في وقت حدوثها بل وتشارك في القتل عبر التمهيد له وتبريره.


وعلى الريق أي من دون أن يتناول وزير التراث الإسرائيلي ترويقته، دعا الأخير إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة. المستغرب ليس موقفه بقدر صفته، وزير التراث...أي تراث؟ وتاريخ «قطاعه» قائم على السرقة، ليس سرقة الأرض والبيوت والمؤسسات والآثار والزي والفخار فقط، بل سرقة الترويقة كذلك (من دون علامتَي التنصيص): سرقة الحمّص (الخمص عندهم) والزعتر والفلافل والكنافة، حتى الكنافة التي تُهان بوضعها مع الشوكولا سرقوها. المستوطنون مجنّدون في جيش الاحتلال العسكري، ومجندون في جيشه الإلكتروني، وهم مجندون كذلك في السطو على التراث، والمطبخ ليس مجموعة أكلات تسد بها رمقك، المطبخ تراث. أي إن الشيف الصهيوني الذي يحدّق في ورقة الفلسطيني وينقل عنها، وبفجاجة وعلنية لأن مراقب الامتحان متواطئ معه ويتيح له فعل ما يشاء، هو يطبخ التراث: يطهو الهوية ويقدمهما للمستوطنين ليلتهموها، وهم بدورهم يمضغون التراث ويبتلعون الهوية. الخاء في الخمّص، هي خاء الخواء، هي دليل الخواء، والخاوي يلفظ حقيقة ما يختلجه من دون فلترة العقل، يجاهر برغبته في محو غزة بالنووي، وبنهمه تجاه بيروت، وهو بذلك يورّط مراقب الامتحان المتواطئ والداعم له ويضعه في موقف مخزٍ أمام العالم.
أمّا مفردة «التِّرِنْد» (جميلة وهي محرّكة، أليس كذلك؟) فقد عرّفها المجمع اللغوي على أنها «موضوع ساخن جديد يُثار على منصّات التواصل الاجتماعي، فينتشر بسرعة في مدة زمنية قصيرة، ويهتمُّ به الجمهور، ويتداولونه بالحديث فيه والتعليق عليه ويتبادلون الأخبار عنه بكثرة». والترند كلمة مُعرّبة من الأصل الإنكليزي لها وتعني نزعة جامحة أو ميل قويّ أو موضة أو صيحة. وبعد الإعلان عن تعريب الترند (من دون علامتي التنصيص) بات المجمع اللغوي واللغة العربية ترنداً (بات مسموح صرفها!) على مواقع التواصل، بين من أيّد ومن عارض. ربما لا يريد المجمع تغريب اللغة، بل الترغيب بها، فهي تشهد هجراً، ولا سيّما من جلِّ الذين يشغلون وظائف مرموقة. ورغم أنّ مهن عدد منهم تتطلب إتقان العربية، ورغم فصاحة هؤلاء إلا أنك تجدهم يضعون أبناءهم في مدارس عالمية لا تُعلّم العربية، ولا يعوّضون لهم هذا النقص، كأن العربية صيحة موضة انتهى زمنها، ولكن الحقيقة أنهم يعانون من «عقدة الخواجة».
إنّ خيانة اللغة مثل خيانة الوطن. اللغة جزء من الهوية، والعدو الإسرائيلي مع بداية مشروع الكيان، من أوائل ما قام به إنشاء لغة موحدة ليتعلمها ويتحدث بها القادمون من الشتات، تُشكَّل عبرها هُويّتهم الجديدة. وقد تولى إليعيزر بن يهودا التنظير للعبرية، وقام مع اللجنة التي شكلها بدء إعادة إحيائها وهي التي سبق واندثرت. تعلّمُ اللغات الأجنبية أمر مُحبّذ ومطلوب، ولكن الانسلاخ عن العربية هو المستنكر.
ولفظة المستنكر تستدعي في الذهن جامعة الدول العربية. بات الاستنكار مرادفاً لها. رغم التحديث الذي يقوم به المجمع اللغوي، ورغم أن المعجم العربي ثري بالمصطلحات، إلا أن قاموس جامعة الدول العربية ينحصر على بضع كلمات: الاستنكار، الإدانة، والشجب، وهي مرادفات لمعنى واحد. ويمكن للمجمع أن يتيح استعمالها بهذا المعنى، أي أن يُجيز قول: إن فعلتك جامعة الدول العربية (أي فعلتك مستنكرة)، أو إنك جامعة الدول العربية (أي إنك مدان). إن بيان الجامعة يشهد رقابة صارمة، رقابة المجمع الدولي، رقابة تمنع استعمال مصطلحات جديدة، تمنع ولوج ألفاظ مثل: المقاومة والتحرير، هي ألفاظ محظورة، كما أن اللغة المستخدمة يجب أن تتسم باللباقة، وإغداق التمني والترجي وغياب تام للأمر، غياب لكل ما يحيل إلى فعل. وجامعة الدول العربية، تقف مع المجتمع الدولي في ساحة الفرجة، يشاهد أعضاؤها الإعدام الجماعي، ومطبخها لا يحوي سوى الجبن. الجبن وربما الخمّص.
يبدو أن نشوة الحكم، تولّد عند الحكّام متلازمة عدم الإحساس بالألم. والألم هو إنذارُ خطر، هو الطريقة التي يُعبّر بها الجسد عن الضرر أو المرض الذي يكابده؛ وانعدامُ الشعور بالألم يؤدّي إلى انعدام المعرفة بالمرض، والجهل بالمرض وعدم مداواته يوصل إلى الموت. وانعدام الشعور بالألم عند الرؤساء، يؤدي إلى عدم إدراكهم الخلل الذي تكابده الدولة، وعدم إدراك الخلل يؤدي إلى تفاقمه، ما يوصل الحاكم إلى الإقصاء، والدولة إلى الموت. والإقصاء يتحقق في الانتخابات المقبلة، أو عبر ثورة شعبية، أو ربما عبر انقلاب عسكري. والسؤال الذي يُطرح هنا: كم رئيساً سيُطاح به بعد كل هذا الكمّ من الألم؟
إنّ التاريخ لن يُكتب على موائد الحكام. منصّات التواصل الاجتماعي وسيلة استطاع عبرها الصحافيون والناشطون فرض الحقيقة على كاتب التاريخ، فرض إنصاته وإذعانه لسردية تنافي اختلاقات الحكام وأزلامهم. واللغة الزاخرة التي يُطوّعونها وفق أهوائهم انفجرت في وجوههم، أُطلقت الكلمات من مسدس الحقيقة، وأصابت قلب الزيف إصابةً دقيقة. والتاريخ يقول لنا إن الدُّخلاء إن هيمنوا، يُهجّر الأصيل ويُقتل، لذا يجب أن يبقى المُعرّب في لغتنا استثناءً وأن لا يصير القاعدة. واللغة بقديمها وجديدها، بأصيلها ومُحدَثِها، تنزف مذهولةً من هول ما يجري في غزة، لكنّ التحرير، ثوب تراثي أصيل يُحاك غرزة تلوَ غرزة.