منذ أفلاطون حتّى بدايات القرن العشرين كان يُعتبر الفكرُ سابقاً على اللغة، إذ كان الاعتقاد يقوم على أنّ عقل الإنسان ينتجُ أفكاراً ثمّ يحتاجُ إلى أوعية لغوية للتعبير عنها. لذلك يعيب البعض على عبقرية كانط الفلسفية أنّه أسقطَ مقولةَ اللغة من مقولاته الذهنية الإثنتي عشرة التي حدّد عبرها شروط وحدود المعرفة وإمكانات العقل. فإذا كان العقلُ أعدل الأشياء قسمةً بين الناس وفق ديكارت فكيف نفسّر اختلاف العقول إذن؟ ضمن هذا السياق جاء نقد التجريبيين للعقلانيين، وبالإشكالية ذاتها انتقد كانط التجريبيين بالآتي: وكيف نفسّر اتّفاق العقول إذن؟ مخطئ من يعتقد أنّ كانط جاء ليوفّق بين التجريبية والعقلانية فهو جاء ليضع حدّاً لهذي وحدّاً لتلك عبر تأسيس أرضية فلسفية جديدة تقوّض إطلاقية الإيمان بالعقل وتحدّد سقفه المعرفيّ. لربّما تقصّد كانط أن يتناسى مقولة اللغة لضرورة اكتمال فلسفته الجديدة. فإذا اتفقنا على أنّ عقل الإنسان مجهّز بمقولة اللغة أي بإمكانية إنتاجها، فكيف نفسّر اختلاف اللغات؟ مقولات كانط مقولات ذهنية مجرّدة كالزمان والمكان.
للفنانة لورا بوراس دايمو

ولكنّ اللغة لا تصبح لغةً إلّا إذا انفصلت عن شبحيتها وأثيرها، أي عندما تدخل في سياقها التفاعلي. لو صنّف كانط اللغة كمقولة لناقض نفسه واحتاج حينئذٍ إلى دراسة المنطق الذي يجمع اللغات جميعها. وهذه مسألة خاض فيها بعضُ علماء اللغة والألسنيين. ولكن عبقريّاً آخر سيأتي ويحدّد إمكانية معرفيّة جديدة للعقل وهي ما غفل أو تغافل عنها كانط، أي اللغة. ينظر صاحب «التراكتاتوس»، الفيلسوف النمسوي فتنجشتاين، إلى أنّ الفكر وطبيعة العالم نفسه يشتركان في بنية واردة في قوانين الفكر المنطقي واللغة المستخدمة. فالرموز أو الكلمة الصورة مرتّبةً وفقاً لهذا المنطق من أجل تصوير محاكاة أو نموذج لما يجري في العالم. وأنّ حدود التفكير بالتالي هي حدود اللغة. ولكن في كتابه الآخر «تحقيقات فلسفية» يَخرجُ فتنجشتاين من التعميمية ويدخل أكثر صوب التخصيص. فالقول الأول ينطبق على جميع البشر كقانون ضروري. ولكنّه يؤكّد في كتابه الثاني على أنّ للغة سياق اجتماعي وحضاري وثقافي محلّي يختلف عنه وعن سياقات أخرى وهذا من شأنه أن يجعل الفكر مختلفاً بالضرورة عن فكرٍ آخر طالما أنّه يعتبر أنّ اللغة هي الفكر والفكر هو اللغة وليست خزّاناً له، أي أصبح ينظر إلى اللغة والفكر معاً بأنّهما يتلقّيان معناهما بكل بساطة من فائدتهما في ثقافات محدّدة، وبذلك بات يتحقّق التعبير الواضح عن طريق الاستفسار من منظور انتروبولوجي عن الأمثلة الفعلية لاستخدام كلمة أو عبارات من حيث منطقها المعطى محلّياً. هو يقضي على الفلسفة بذلك ويعتبرها هراء، لأنّها تحاول قول ما لا يُقال. ما يُمكن قوله هو ما يُمكن ملاحظته فقط، أي إنّه لا نفع للميتافيزيقيا ذلك «أنّ الذي لا نلاحظه، علينا تجاهله». ينتهي فتنجشتاين إلى أنّ اليقين والشكّ أمران ينطوي عليهما الفكر طالما أنّ اللغة قادرة على إنتاج أقوال صحيحة أو صادقة وأخرى كاذبة أو خاطئة. وكل عملية لغوية غير ذلك تصبح أقوالاً لا معنى لها. أي يعتبر أنّ للكذب معنى طالما أنّ وقائعه يمكن ملاحظتها. ألا يشوّه ذلك الحقيقة؟
ينطوي الكذب الإسرائيلي على ذلك. يبني سرديّته على وجود وقائع موجودة ولكنّه يعيد ترتيب سياقها بما يتوافق مع مخططه. حتّى يعطي معنى لكذبته بنى على واقعيّة الأنفاق في غزّة. فهو لا يقصف ليقتل الناس في المشافي بل ليدمّر شبكة الأنفاق في غزّة. أحياناً لا تكذب لمجرد أن تكذب أو من أجل التبرير. وهذا ما لا يفعله الاحتلال، فليس بحاجة إلى تبرير جرائمه، ولكنّه يكذب كي يحاول أن يجعل من سلاح القوة عند المقاومة نقطة ضعف. أي إذا كانت شبكة الأنفاق هي من تحمي المقاومة فلنحاربهم بها عبر جعلها عبئاً عليهم. عقلية كل احتلال تنبع من لغة كاذبة حتى ولو كانت حقيقيّة. فلنتأمّل بالقول هذا: «شعبٌ بلا أرض لأرضٍ بلا شعب». هذا قولٌ له معنى لأنّ له وقائع يمكن ملاحظتها. ولكنّ معناه أصبح كاذباً عندما تمّ إسقاطه على أرضٍ بها شعب وهذا الشعب له تاريخ وتراث وسياق ثقافي وحضاري شكّل له بنية فكرية ولغوية متناظرة مع واقعه. وبالتالي أصبح كل قول يقوله الاحتلال بالضرورة كاذباً حتّى ولو كان له معنى، ذلك أنّه من الأساس مبنيٌّ على الكذب. فكما رأينا، نحدّد صدق القضيّة حسب فتنجشتاين لا بالإشارة إلى علاقة التوافق بينها وبين الواقعة التي تقتضيها ولكن بالإشارة إلى شبكة القضايا التي تشكّل نسق المعرفة التي يشملها كجزء، فنحن «لا نلتزم بقضيّة واحدة بل بشبكة من القضايا». يقدّم لنا فتنجشتاين مثالاً واضحاً: «إذا قلتُ بكل تأكيد أنّه بعد معركة أوسترليتز فعل نابليون كذا وكذا.. فيمكنني أيضاً أن أقول بكل تأكيد إنّ الأرض كانت موجودة قبل تلك المعركة وذلك من دون محاولة لإقامة برهان على وجود الأرض قبل ذلك التاريخ»، أي من المستحيل أن تحدث المعركة إن لم نفترض وجودَ الأرض. الشكّ بوجود الأرض قبل حدوث المعركة يتعارض مع يقينية حدوث المعركة. ولكن رغم أنّي أستطيع التشكيك في حدوث معركة أوسترليتز إلا أنّني لا أستطيع التشكيك في وجود الأرض لأن القضاء بوجودها يتّسق مع نسق من القضايا التاريخية والعلمية والعملية الصادقة.
إنّ إمكانات عقل الاحتلال المحض أي حدود معرفته بالعالم، مهما تعاظمت، تقف دوماً عند ظاهر الأشياء أي تصطدم دوماً بالمقاومة. إنّ المحتلّ لا يعرف المقاومة كجوهر لأنّه ببساطة مستعمِر، فمعنى المقاومة عنده مبنيٌّ على دالٍّ لغوي له مدلول الإرهاب بكل ما يمكن لهذه اللفظة أن تثير في فكره من صور للفزع. وبالعودة لفتنجشتاين وتلاحم اللغة بالفكر ضمن سياق ثقافي محدّد. وبالاستناد إلى حدود الفكر عند كانط يصبح مفهوم المقاومة عند المحتلّ بمثابة «الشيء في ذاته» عند كانط ومن المفاهيم الميتافيزيقية التي لا معنى لها حسب فيتنجشتاين. ولذلك فالعدوّ الإسرائيلي حينما يعتبر أهل غزّة حيوانات بشرية فهو لا يقول مجازاً كاذباً لتبرير قتلهم فقط بل ببساطة لأنّهم كمقاومون لا معنى لهم في نظره.
يذكّرنا العزيز بول مخلوف - في افتتاحية عدد سابق من «إنّما» حول التنوير المُظلم- بأسلوبٍ بليغٍ جدّاً بأنّ: « «التنوير» اليوم، الذي سبق وقال عنه هوركهايمر وأدورنو منذ مئة عام تقريباً في كتاب «نقد التنوير» أنه شيزوفريني، مزدوج، له وجهان، وقد غلبه الوجه المرعب، ذلك المتمثل بشراهة السيطرة، و«أسطرة» العقل، وبناء سرديات واهية حول التفوق. هو الوجه الذي يبرز فجأة على مضض، بعد التفاتة سريعة، ويكون مضرجاً بالدم، والقيء، والأنياب المسنونة المستعدة للنهش تنتظر مذاق اللحم، تماماً كما يظهر الوحش في أفلام الرعب». يحيلنا هذا في بعض جوانبه إلى الفيلسوفين دولوز وجتاري في كتابهما المشترك «ضدّ أوديب» الذي أخذا به على فرويد أنّه حصر الرغبة في حدود الأسرة وتفاعلاتها النفسية فحبسها في ثالوث(الأم الأب والطفل) وحوّلها إلى «سرّ عائلي قذر». لذا عمدا في الكتاب إلى إخراج هذه الرغبة من قمقمها واعتبارها مجالاً اجتماعياً لتوليد الهذيانات. فالرغبة من منظورهما تسري في الجسد الاجتماعي كسريانها في الجسد الفردي ويتمّ التعبير عنها لا في الهذيانات حول كراهية الأم والأب إنّما تتمثّل في الحقل الاجتماعي عبر الهذيانات حول الشعوب والأعراق والقبائل والمال والسلطة.. وهي هذيانات لا تخلو من أحد أمرين برأي المؤلّفَين: إمّا أن تكون فاشتسية تتعلّق بكره الأجانب ورفض التسامح وإحياء التقاليد العرقية والشوفينية.. وإمّا أن تكون ثورية تتعلّق بطرق تصوّر مجتمع أفضل أي بالحديث عن الحلم والعشق واللعب واليوتوبيا والعدالة والفنّ. وعليه فالتنوير الغربي الذي اتّخذ الوجه المرعب كما أسلفنا، أي الذي عبّر عن مكنوناته بممارسة وحشيّة، يقوم بالأساس على اللاوعي الجمعي الذي يهذي بفاشتسية شوفانية ضدّ الأغيار. فالغرب الذي لم يعتبر هتلر مجرماً إلّا لأنّه مارس نازيته على أوروبّا، هو ذاته الذي يمارس وحشيته ضد الآخرين بفاشتسية عبر الاحتلال والحقد والقتل.
إنّ التنوير البراغماتي يستوي الصدق فيه والكذب ضمن سياق فكري محدّد. إنّه الذي يرى فيه المحتلّ «أعذب التنوير أكذبه». ولكن للمقاومة أيضاً تنويرها الخاصّ بها، وتعرف كيف تجسّده في الميدان، لأنّ «رغبة تناسل الحرّية» تولّد لديها نوعاً خاصّاً من اللاشعور الجمعي الذي يتصوّر مجتمعاً أفضل وأكثر ثوريّةً. في غزّة يشعُّ تنوير المقاومة حدّ «التفجّر»، أوضح وأصدق من الحديث عن غزّة كما تتحدّث غزّة في «هذيانها» عن قصص الحالمين العاشقين، وعن ألعاب الطفولة، عن يوتوبيا الاستشهاد، عن العدالة التي تقدّمها للعالمين، وعن الفنّ في النضال والحياة؟هل للمحتلّ مثل هذه المفاهيم حتّى يقدر على ممارستها؟ إنّك حينما تتحدّث عن هذه المفاهيم فهذا يتطلّب أن يكون هناك تناظر بين الفكر واللغة قد تشكّل حسب فتنجشتاين في بنية واحدة للغة والوجود. وبالتالي كلّما صوّرت اللغة الوقائع في العالم بشكلٍ منطقي كلّما كانت قولاً صادقاً. بهذا المعنى ألا يمكن اعتبار الذاكرة الجمعية معياراً آخر للصدق عند الشعوب؟ أليست فكرة الأرض تُختزل إلى وطن؟ حقّاً أليس فكرُ الوطنيين مختلف عن فكر المواطنين وفكر المستوطنين حكماً؟ فالذاكرة الجمعية إذن تتطلّب معجمها الذي يتمحور حوله تصوّرها للذات وللعالم. فكلّما كانت واقعة انتمائك إلى الأرض أقوى وأشدّ و«أفعل» كلّما كان معجمك للعالم أصدق. فلنفكّر معاً في وصايا الفدائيين، نصدّقها ليست لأنّها أبلغ بل لأنّ عبق رائحة التراب يفوح من بين سطورها. ولكن ماذا عساه يكتب في وصيّته مستوطنٌ قبل أن يسقطَ قتيلاً؟ الوطن يا صفيّة؟ لا أظنّ. ولذلك يجترّ المحتلّ -بفعل فقدانه لذاكرة وطنية جمعية- سرديّة الميتافيزيقيا دوماً، ليبني لنفسه واقعاً حتّى ولو كان كاذباً. ولكنّه فاته أنّ الميتافيزيقيا حسب فتنجشتاين لا معنى لها أي أنّ التأسيس عليها غير منطقي، وبالتالي ليس من الإمكان. فلا يجوز اعتبارها وقائع قد تصدق وقد تكذب (تخطئ)، ذلك لأنّها بطبعها فاقدة للمعنى. يشير لنا والتر بنيامين في مقاله «حول مفهوم التاريخ» بأنّ اليهود يحرّمون على الناس الاستعانة بالمنجّمين لقراءة الطالع واستشراف المستقبل، لأن الغيب في علم الله وحده وخارج عن إرادة البشر. وفي مقابل حرمانية التنبؤ بالمستقبل كانت التوراة والمزامير تحثهم على التذكر الدائم. فلا غرابة إذن أن تكون لغة الاحتلال مطابقةً له. فما نفع الكذب إذن، إذا كان -الاحتلال ولغته- لا معنى لهما بالأصل؟