يضرب لنا جان بول سارتر مثل «توم المختلس للنظر»، مصوّراً فهمه العميق لحجة هيجل الشهيرة القائلة إنّني أستطيع أن أصبح مدركاً لذاتي عندما أجد انعكاساً لذاتي في وعي الغير، ولما يعنيه قول «إنني أكون واعياً بأنني منظور إليه»: «لنتصور أنني، بدافع الغيرة أو الفضول أو الرذيلة، قد ألصقت أذني بالباب، ونظرت من ثقب الباب»، هنا ينحصر إدراكي بصفتي توم المختلس للنظر على المنظر المراد رؤيته داخل الغرفة، والحديث المراد استراق السمع إليه -ووعيي هو إدراك شفّاف للمناظر والأصوات -، ولكن فجأة، يقول سارتر، أسمع وقع أقدام في الردهة، هناك شخص ما ينظر إليّ، ويتملّكني الخجل عندما أدرك فجأة نظرة الغير إليّ. وأمام نظرة الغير إليّ، يبدو لي عالمي وكأنه يتلاشى، «وأشعر فجأة بالاغتراب عن كلّ إمكاناتي».يتناول هنري باربوس الفكرة عينها في روايته «الجحيم»، التي ترجمها إلى العربية فتحي العشري بعد مطالبةٍ من نجيب محفوظ. يحلّ بطل الرواية نزيلاً في غرفة أحد الفنادق، وبعدما تأمّل الغرفة التي أكل عليها الدهر وشرب، يجلس على المقعد: «لم أبرح مقعدي المواجه للركن الذي توجد فيه المرآة، وقد بدأت الغشاوة تغزوها ويتراءى لي وجهي البيضاويّ الشكل كأني أسترق النظرات خلسة إلى أعماق نفسي التي تبدو أشبه ما تكون بمقبرة». وبعد اختلاسه النظر إلى نفسه يكتشف ثقباً يفضي إلى الغرفة المجاورة، يقف على السرير ويختلس النظر إليها، يحدّق في محتوياتها، يجدها مطابقةً تماماً لغرفته، ثم تتزاحم الأفكار على رأسه «سأكون مع كل من يقطنها في كل لحظة، ولكن من دون علمه، سأرى من فيها وسأسمعه وسأشاركه حياته كما لو لم يكن بيننا فاصل». يبدو أنّ الفكرة قد أعجبتك عزيزي القارئ، دغدغت فضولك أليس كذلك؟ ماذا لو كنت مكانه؟ يتوالى النزلاء على الغرفة المجاورة، ومع كل منهم تتّسع أذناه وتزداد عيناه جحوظاً، ويصبح جسده أشبه بتمثال ملتصق بالحائط. يؤنسه من فيها في وحدته، يتتبّع ما يجري، يرى حقيقة الناس عاريةً، متجرّدةً من لباس الزيف، يرى تجلّي قناعاتهم من دون أقنعة، يحملق في تحرّكاتهم وتفاعلاتهم، ويستمع إلى كلماتهم التي تنساب في طريقٍ سريع خالٍ من مطبّات الرقابة المجتمعية، ولكلّ منهم قصة تحفر في أعماق نفسه، تفتح المقبرة، تحرّر الجثة الراقدة، وتدبّ فيها الحياة.
عند التعريف بالجناس، المثل الأبسط والأيسر الذي يقدّم هو العين. فالعين الدامعة وهي عضو الإبصار. والعين النابعة أي نبع المياه، والعين قد تعني كذلك الجاسوس الذي يختلس الأنظار ويتلصّص إلى الأخبار. والجاسوس لا يحتاج إلّا إلى ثقب قد يتسبّب فيه نقّار الخشب أو قد ينشأ نتيجة العفن، أو قد يكون ثقباً تسبّبت فيه التكنولوجيا. أنت عبر الهاتف بين يديك، مراقَب ومراقِب، الكاميرا تحدّق في وجهك البهيّ طوال الوقت، والمنصات تلتقط لمسات أناملك، تلتقط تريّثك لتغدق عليك المزيد والمزيد من السلع المستهدفة، مع خيار «اشترِ الآن»، فرّغ جيبك!
ومن السلع الرائجة كاميرات المراقبة، التي باتت تملأ المؤسّسات، تملأ البلاد. أينما حللت أنت مراقب، العيون شاخصة نحوك، ونرجو ألّا يدفعك ذلك إلى الذّهان بحال اعتقدت فعلاً أنك بتّ محور الكون. وقد أصبحت «الريلز» محور منصّات التواصل: مقاطع فيديو قصيرة، تقلّب بينها بانسياب، كالطريق السريع من دون مطبات، تستلبك، تُشعرك بالاغتراب عن كل إمكاناتك كمن يدوس «دعسة البنزين» من دون توقف، ومقاطع الترويج للمحال يشوبها الكثير من الصراخ، والمشاجرة، والتوبيخ، والتحطيم، وغالباً تنتهي بصفع الثقب في أعلى الشاشة، مع مفردة «روح».
ومنذ بداية الإبادة في غزة، شخصت الأبصار على الشاشات. تربصت حيث الكاميرات تنقل المعاناة، والتقليب بين مقاطع الفيديو بات مرادفاً لتقليب الجثث بغية محاولة التعرّف إليها، ومحاولة استيعاب كمّ الظلم الذي كابدته جرّاء الاستهداف. تُنقل صور أجساد مختلفة الأحجام، مقطّعة الأوصال. أجساد تهاوت تحت زخات الصواريخ. أجساد ما عاد فيها نبض، ما عاد فيها روح. شكّلت كاميرات الصحافيين، الأفراد والمؤسسات، المؤسسات المنحازة لفلسطين، ثقباً في جدار الوعي، والمشاهدون يقفون بعيون جاحظة يحدّقون في الحقيقة العارية، البادية، المجرّدة من سردية الزيف، المجرّدة من الرداء الذي يستر جوهر الكيان الصهيوني، لتظهر حقيقة «إسرائيل» أمام العالم. والآذان تنصت إلى أنّات ملأت الكون، أدمت القلوب، فتحت المقبرة التي حوت القضية الفلسطينية في أعماق النفوس، وأعادت بعثها. أعادتها الدماء إلى أوجها. العذابات ثمنٌ باهظٌ يُدفع في سبيل تحرير الأرض، في سبيل استعادتها. حاولت إسرائيل التدارك، ليس بوقف العدوان، بل حاولت سدّ الثقب عبر الترهيب، عبر القتل: قُتل عصام عبد الله، وربيع معماري وفرح عمر. قُتل أكثر من سبعين صحافيّاً في غزة، ولكن كالعادة يكون الأثر عكسيّاً، فالثقب بات باباً مخلّعاً، تظهر عبره «إسرائيل» إرهابية، فاشية، تنتهج القتل للقتل، القتل عندها غاية، وتحاول أن تتنازل لا بالامتناع عنه، بل بتصويره وسيلة، أو «أعراضاً جانبية» لهدف سامٍ. وفي المقابل تقدّم المقاومة في لبنان مقاوميها قرابين على طريق القدس، وتقوم بفقأ عيون الاحتلال على طول الحدود، عبر استهداف مواقعه، وقد ورد الآن خبر عاجل: «أثناء قيام جنديَّين «إسرائيليَّين» بتركيب أجهزة تنصت عسكرية على إحدى الرافعات في موقع الراهب استهدفهما مجاهدو المقاومة الإسلامية بالصواريخ الموجّهة ما أدى إلى إصابة الرافعة وسقوطها ومقتل الجنديين».
يستدلّ الفلسطيني منذ بدء الاستيطان على طريق العدل، دُلَّ على طريق أوسلو، فتبين أنه يُفضي إلى وادٍ سحيق، لا خلاص به، استمر بحثه فوجد السبيل الوحيد في حفر الطريق بيديه، في إنشائه، طريق يفضي إلى إزالة الاحتلال؛ فكما يقول سارتر: «الإنسان لا شيء سوى ما يصنعه بنفسه». والحقيقة الدامغة: إنّ طريق العدل مُلبّدة بالجثث.