الزهد حالة وجودية حالمة، نمطٌ من العيش الرومانطيقي المسالِم والمطمئن إلى دموع إيمانه. عبرها يرى الزاهد نفسه خارج إطار المرآة الدنيوي ويتبصّر في روحه معنى الحبّ والعطاء والسكينة. لكن مهلاً، كيف يمكن لغير الزاهد أن يعرّف الزهد؟ أليس النضال زهدٌ عن الخضوع؟ أليس عطاءً وبذلاً وبحثاً عن خير البندقية في أزمة «الوعي الشقي»؟ إنّه كلّما زادت حدّةُ المناضلين زاد زهدهُم رقّةً وشفافيّةً. لأنّ زهدَ من يناضل أسمى وأرقى، لأنّه نمطٌ من العيش المكافِح، وأسلوبٌ لا يطلبُ الطمأنينة بل يريد أن يستحقَّها بجدارة دمِه لا دمعه. المعنى واضح. إذا كانت صلوات الصومعات حميميّة بطبعها، فإنّ الصلاة في الميدان ملحميّة لأنّ الحرّية التي لا تُصلَب في الروح لا تستحقّ الدماء. أليستِ الحرّية كالله واحدة؟ يكتب كازانتزاكي في مذكراته أنّ «الحرية كانت أولى رغباتي الكبيرة. أما الثانية والتي تظلّ خبيئة في أعماقي وهي تعذّبني حتّى اليوم، فكانت الرغبة في الطهارة. البطل مع القدّيس، هذا هو النموذج الأمثل للإنسان».

يُمكن أن نفهم حدث الميلاد على أنّه دخولٌ مفاجئ في الزمن. أن تولد يعني أن تخرج من حالة كنت مفعولاً بها إلى حالة تكون فيها فاعلاً. لذا من الغريب بالنسبة إليّ أن يكون الموت نقيض الولادة. الموت قد يكون نقيض الحياة. للعدم أن يكون نقيض الولادة. فالأموات أحياء، وحين أعلن نيتشه عن موت الإله فهو لم يكن يعلنُ عن محوِ وجوده داخل المؤمنين به، بل كان يسعى ليقول إنّ الحياة هي فرصةٌ لتكون فاعلاً أرقى. أي لن تستحقّ الحياة كقيمة عليا إلا إذا قبضت يدُ الموت المجازية روحَ من تعيق قيمُه الرديئة إرادة الحياة لديك. من هنا تفتّقت مطرقة نيتشه، «الميتافيزيقي الأخير» بحسب هايدغر، عن فكرة العود الأبديّ، أي الصيرورة بذاتها، والتكرار الممل للماضي الحاضر الذي لا يحضر ولا يمضي، فجميع الذي عشته في حياتك ستعيشه مرّة أخرى لاحقاً. لكن قد ينتقد أحدهم نيتشه، ويفترض أنّ الإله لم يمت طالما أنّه سيعود، وأنّنا سنعيد قتله بأيدينا كما فعلنا، وهكذا في عودٍ لا ينتهي ولا ينبغي له أن ينتهي في عُرف الأبديّة. المسألة ليست بهذه السذاجة. العود الأبديّ عند نيتشه أقرب إلى محاولة ترغيب الإنسان في الترقّي الدائم بالحياة، في أن يكون الكنز الذي لا يفنى غير مطمورٍ في فخّ القناعة، بل يجب التنقيب عنه بالسموّ الوجودي للإرادة. ولذا أشعر بنيتشه أكثر عندما أفهم العود الأبدي على أنّه مثالٌ أكثر ممّا هو عنصر من عناصر فلسفته. بمعنى أنّني لو سألتك اليوم: لو أنّ حياتك هذه ستُعاد يوماً ما بذات التفاصيل فهل ستقبل بها كما هي، هكذا بآلامها وأوجاعها وعلوّها ودنوّها وأفراحها وأحزانها؟ أم تفضّل لو أنّك تعيش حياةً أفضل وأرفع وأكثر قيمةً وحينها ستفضّل لو أنّها تُعاد؟ بهذا المعنى طرح نيتشه فكرته حول العود الأبديّ باعتبارها السؤال الذي يجب أن تمتحن فيه إرادتنا. والآن هل يجوز أنْ نسأل نيتشه عن رأيه بالسانتا كلوز المبعوث السنوي الدائم للتذكير بأنّ الإله لم يمتْ وأنّه قد قام ويولَد باستمرار؟ أم بيهوذا الخائن الأشهر، قاتل الإله بسوط لسانه؟ أم بالمناضل صاحب العيون الكحيلة التي تبرزها الكوفية، ذلك الذي يريد أسمى ما في الوجود لأنّه يأخذ بنصيحة نيتشه ويعيش بخطر -ليس الخطر الذي تخلقه القذيفة، إنّما الخطر المطلوب الذي يزعزع الكائن ويبشّر بما يشاء أن يكون؟
المسألة هي أنّ غزالة سانتا كلوز في مجتمعات كمجتمعاتنا تكاد تكون رمزاً لحالة الزهد السياسي «الوطني» في مجتمعات ما بعد الاستعمار. وهي أساساً سُمّيت بذلك لأنّها لم تقطع قولاً وفعلاً مع العلاقات الاستعمارية رغم خروج جنود الاستعمار منها. لذلك فمن عادة سانتا كلوز الأبيض أن يأتي بهداياه إلينا محمّلةً على غزال الديموقراطية والقيم والحرّية. إنّه الغزال الذي يخدّرُك بالألم والذي يصطادُ صائدَه ويبشّر بالسلام... المسلّح. ولكن حسناً، ألا تكون بذلك أنت أيضاً غزالاً؟ إذ الغزال الذي يدّعي الوداعة لينقضّ ليس كالغزال الذي يسرح ببرّيته حالماً فيؤكل. هذه هي خطورة ألا تعرف ما تفعل بالحرّية وليس فقط في كيفية امتلاكها. لأنّك حينما تتحرّر في غابتك السياسية ولا تسرح فيها بحذر، فإنّ وجودك مستباحٌ -أيّها الغزال الشقي- لغزالٍ يحبّ افتراسك بخفّةٍ ولذّة.
تكتب جوديث بتلر في كتابها «الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع» في فصل «الوعي الشقي عند هيغل» الآتي: «يتمثّل خوف العبد إذن في تجربة امتلاك ما يبدو أنّه مُلكية مُصادَرة. في تجربة التخلّي عن ما كان قد صنعه، يفهم العبد قضيّتين: الأولى هي أنّ ما هو عليه، مُجسّدٌ أو مدلولٌ عليه فيما يصنعه. وعليه، إن كان الموضوع الذي يعرّف العبد هو التوقيع الذي عبره يكتسب معنى وجوده، وإن كان يضحّي بهذه الموضوعات باستمرار، فيكون العبد كائناً يضحّي بنفسه باستمرار. لا يمكن للعبد التحكّم في الموضوع الذي يضع اسمه عليه أو في الغايات التي يسعى عبرها إلى تثبيت اسمه، فتوقيعه عبارة عن فعلِ محوٍ للذات: يقرأ التوقيع فيعرف أنّه توقيعه الخاصّ، يعرف أنّ وجوده يخصّه بشكلٍ لا يُختزل، وأنّ ما يخصّه بشكل لا يُختزل هو تلاشيه الخاصّ، وأنّ هذا التلاشي نتيجةٌ لشيءٍ آخر- أي إنّ ذلك شكل اجتماعي من المحو الذاتي. فهو لا يعمل من أجل شخص آخر يستولي على حصيلة عمله فقط، بل يتخلّى عن توقيعه ويعطيه إلى الشخص الآخر. فلا يكون توقيعه بعد الآن علامة تميّز ملكية عمله بأي شكل من الأشكال». إذاً، بالعودة إلى سانتا كلوز الأبيض، فهو على الدوام ذلك الذي تحتوي عربتُه كلّ هدايا التمييز: الطبقيّة والعنصرية. فهو الطبقي حين يترفّع عن زيارة «صوبيا» التنك التي لا يتّسع أنبوبها لكرشه، ولا يزور إلا البيوت التي تتباهى بمداخنها القرميدية. وهو العنصري لأنّ أطفال آسيا وأفريقيا لم يجدوه يوماً فوق سطوحهم حينما احتاجوه. فدائماً ما كانت قصّته تبدأ وتنتهي فوف سطوح أوروبا وأميركا. مجتمع ما بعد الاستعمار أو بالأحرى الوعي الشقيّ إذن، هو بلغة نيتشه ضميرٌ مُثقلٌ بالذنب في بدايته. الذي يخافُ من الحرّية ومن ممارستها في آنٍ معاً، فيلتجئ إلى الأخلاق ويختلق المعايير الأخلاقية حتى يقمعها. فليس مستغرباً أنّ هدية سانتا كلوز الأبيض دائماً ما تكون الأكثر كرماً، رزمة من المعايير والأوامر المفروضة التي تسيّر معنى السيادة والحرّية والإنسان في بلادنا. إنّكَ حينما تكون غزالاً بالفهم الذي سبق فأنت بكل ما تملك من «طاقة» مادّية ومعنوية لست في نهاية المطاف سوى من يجرّ عربة سانتا كلوز ذي اللحية البيضاء (البياض هنا ليس لوناً لقد أصبح أيديولوجية). أقصى امتنانك أن تكون أمانيك وشكواك معبّأة ومخبّأة في الجوارب الحمراء المعلّقة فوق «الشومينيه».
إنّ نيتشه حينما صرخ «لقد مات الإله ونحن من قتلناه»، سعى لنزع العدمية التي كست الإنسان برداء الأخلاق، فقال بالإنسان الأعلى وعبّد له الطريق. أصبحت الحياة قيمة بذاتها، لا يجوز استهلاكها بالاستكانة التي تجترّ نفسها باستمرار. القيمة العليا والحقيقيّة للحياة هي أن تكون الحياة بحد ذاتها قيمة. إنّ الزاهد الذي يرابط في الميدان وعلى الحدود يعلن في كلّ عيد ميلاد موت الغزال، ولا يرضيه الجواد الذي يعدو فقط، بل إنّ قيمة وجوده هي في السعي الأعلى. فليس أقلّ من الجواد المجنّح يقبله ليقود عربة سانتا كلوزهِ القادم من نسل ذلك «الفادي» ذي البشرة السمراء. إنّ الفدائيّ هو الإنسان الذي يقاوم ويكافح ولا يخاف عندما يقتضي الأمر أن يقول «كلا» حتّى «للّه». لذلك، حينما «تكذب في الإله عيونُه الزرقاء»، حينها يمكن أن يقول المناضل لقد مات الإله. فليعذرنا نيتشه، لم تعد القضيّة مسألة موت الإله من عدمها. إنّما أيّ إلهٍ ينبغي قتله؟ الحرّية بجوادها المجنّح أم العبودية بغزالتها الشقراء؟ ألا يكاد يشبه سانتا كلوز الأبيض بهذا التوصيف ملامح الحملات الصليبية التي أرادت السيطرة الإقليمية والأيديولوجية؟

«لا أمل لكم ولا رجاء يا من تدخلون من هذا الباب».
تبرز هذه العبارة مكتوبةً على أبواب جحيم دانتي في ملحمته الشهيرة «الكوميديا الإلهية». من يدخل جحيم دانتي سوف تُنقل روحه الملعونة إلى حيث تلقى العذاب الذي يليق بفعلتها، والمدهش أنّ السفينة التي ستنقل تلك الأرواح إلى عذابها يقودها شيطانٌ من خدم الجحيم يُسمّى «شارون». هل يذكّركم هذا الاسم بأحد؟ المثير في ملحمة دانتي، أنّها خصّصت أسفل مراتب الجحيم لأحقر الخونة في التاريخ. ففي هذه الدائرة التاسعة والأخيرة والأشدّ عذاباً من الجحيم يقبع بروتوس ويهوذا وغيرهم الكثير. لقد لخّص نيتشه فلسفته الأخلاقية بالقول إنّ تاريخ البشرية كلّه يمكن تلخيصه بعبارة «روما ضدّ يهوذا ويهوذا ضدّ روما». فهو يعتبر أنّ الصراع الأزليّ بينهما هو المحدّد لمصير الإنسان. ولو قُدِّر لنيتشه أن يكتب الكوميديا الإلهية فما كان ليضع يهوذا في الجحيم، بل إنّ القارئ لنيتشه سيتيقّن أنّ يهوذا رمزٌ أعلى لفلسفته ذلك أنّ هذه الفلسفة تنادي بحنجرة صادحة بموت الإله الرحيم. في حين أنّ الحضارات العظمى من وجهة نظر نيتشه لا يشيّدها في التاريخ سوى أخلاق السادة القائمة على إرادة القوّة التي تستهجن أخلاقيات الشفقة. حسناً، الآن لنعد لسؤالنا السابق، أي إله ينبغي أن يموت؟ وهنا سنتّكئ مرّةً أخرى على نيتشه بسياقه الفلسفي ولكن بمحتوى غير مجرّد. أخذاً بتحليل نيتشه للتاريخ، فلقد أقام السانتا كلوز الأبيض حضارته بأخلاقيات «السادة» التي تفترس الآخرين الذين يمجّدون قيم الإنسانية والرحمة والتي حسب نيتشه هي قيم ضدّ طبيعة الحياة وقانونها الأوحد أي القوة. لقد اتُهِمت النازية أنّها بنت مشروعها السياسي على فلسفة نيتشه، ولقد قلنا في مقال سابق أنّ الغرب لم يعتبر هتلر مجرماً لأنّ توصيفه الموضوعي يتطلّب ذلك، إنّما فقط لأنّ مشروعه السياسي كانت أوروبا ميدانه الأساسي. ولذلك لا يعتبر الغرب اليوم العمل الفدائي مجرّد إجرام وإرهاب ينبغي القضاء عليه، إنّما وكما نرى قد أوعز «للخطاب الديني العربي» بضرورة تحريمه وهذا الأخطر. إنّ السانتا كلوز الأبيض بما هو بريد غربي للتبشير بولادة الإله الأشقر هو الذي يقيم معياره الحضاري على «الداروينية الاجتماعية» التي تتوافق سياسيّاً مع المفهوم البيولوجي لقانون الاصطفاء الطبيعي، والتي تقيم ميزان الخير والشرّ باعتبار نيتشويّ مزيّف يقوم على أنّ الشرّ هو كل ما/ من يحاول عرقلة هذا الاصطفاء، وبالتالي ينبغي القضاء عليه لأنّه يجسّد «الأخلاق الرديئة». إذاً فالعمل الفدائي ضمن هذا السياق هو في «أسفار الاستعمار الغربي» القيمة الرديئة التي ينبغي القضاء عليها. ولذلك نرى أنّ سانتا كلوز الأبيض الذي يعيب على نفسه أن يدير الخدّ الأيسر يريد أنّ يبشّرنا بما لا يؤمن به، وهو أن ندير نحن خدّنا الأيسر بعد أن استنفد خدّنا الأيمن. ما نقوله هو أنّ الإله الفدائي، الإله الذي لا نريد موته لأنّه يشبهنا ويشبه إرادتنا هو الذي كلّما قضى نحبَه قام من جديد. تماماً كما يحصل مع فلسفة المقاومة التي لا تموت في ذهن وقلب من أراد القتال حتّى الرمق الأخير. في مقابلته مع رضوى عاشور يقول ناجي العلي: «المسيح يعنيني كقيمة للفداء، ورسمته كثيراً ليس لأنّه فلسطيني، بل لأنّه كان مُطارَداً وهو نبيّ. أرسمُه كجنوبيٍّ من لبنان وكفلسطينيٍّ من أبناء المخيّمات...». بهذا المعنى نفهم الغرب الاستعماري، بأنّه يهوذا علينا ومسيحاً على نفسه، ولذلك المقاومة التي نؤمن بها، والتي يكون سانتا كلوزها قادماً إلينا عبر جواده المجنّح المُحمَّل بهدايا بنادق القتال ومعاول الأنفاق وسِفر النضال «المقدّس»، هو المبعوث باسم المقاومة، تلك التي تعرف إلهها أسمر وفدائيّاً ولا يموت، وتعرف أيضاً ألّا تكون «يهوذيّةً» لأنّ فعلها فعلٌ «إلهيّ» بطبعه. الجميل والممتع في فلسفات المقاومة هي أنّها قادرة على سلخ المفاهيم الميتافيزيقية عن تساميها المجرّد لتحايث عبرها الميدان بواقعيته ودنيويته، وبالتالي قلب ما أراده نيتشه بمطرقة نيشته نفسه.
وعلى سبيل الاستطراد الضروري، فلا بدّ من التعريج مرّة أخرى على جحيم دانتي. حيث كان لافتاً أنّه خصّص الدائرة ما قبل الأخيرة في جحيمه للقوّادين الذين يبيعون شرفهم وشرف شعوبهم لأهدافهم السياسية والشخصيّة. لقد فضح دانتي أشهر القوّادين في الأدب الغربي اسمه فنديكو كاتشانيميكو الذي باع جسد شقيقته جيسولا بيلا لتحقيق مآربه السياسية الرخيصة والقذرة، فوضعه في حلقة «وديان الشر» التي سيشهد فيها عذاباً لا يفوقه إلا عذاب الخونة الذين وضعهم دانتي في الحلقة الأخيرة. لم يكن من العبث إذاً أن تكون حجرة جحيم القوّادين هي الحجرة ما قبل الأخيرة للجحيم، في حين كانت الدائرة الأخيرة منها هي للخونة. فكلّ قوّاد هو خائن والفرق بينهما يكمن في الدرجة والمقدار. وإن كان لا بدّ من جحيمٍ لملئه في زمن «ما بعد دانتي» فلدينا في العالم العربي، ما يكفي لتفيض الجحيم عن حاجتها، فأبناء كاتشانيميمو ويهوذا، الوضيعون كثُر، يتنقّلون فوق غزالة/ سفينة «شارون» وأبنائه، ويُعرفون كما تُعرف البداهة.
فهلّلويا أيّها المقاوِم.