لمّا اقترب علم الزلازل أو الرَّجاجة، كما يُعرَّب المصطلح العلمي السيسمولوجيا، من فقدانه سمة العلم وخسارته المكانة بأن يكون علماً، أي عندما دنا الموت من السيسمولوجيا لاستحالته معرفة ظواهر طبيعية، كلحظة حدوث زلزالٍ مثلاً، وبسبب عجزه عن السيطرة على ظروف الزلازل وإدراك توقيتها ومنعها من الحدوث، ولد عندئذٍ «العالِم» الهولندي فرانك هوغربيتس. راجت مقولة في ما مضى مفادها أن المشتغلين بالأدب، والشعراء تحديداً، يمتهنون الشعوذة ومسكونون بالأرواح. فمناخات الغموض والالتباس، ولائحة طويلة من الوصفات السحرية الكامنة في جعبتهم جاهزة لخلق واحة مياهٍ في الصحراء القاحلة، أو على الأقلّ هكذا أخبرنا الرائي. عندما كان موضوع المقولة الشعراء حصراً، جاءت المقولة، بالضرورة، شاعرية، نتلقّفها بوصفها مجازاً، ونتعامل معها على أنها تُهمة طالت كلَّ من أراد البحث والاحتكاك بما وراء الطبيعة، والقبض على أجوبة أسئلتها صعبة. لكنّ أمتاراً قليلة تفصل بين الخرافة والعقل – المنطق - أيضاً، لا تُلغي أن يتحوّل العلم إلى خرافة إذا ما خرج التحليل عن طوره، أو إذا فقدت الأدوات العلمية صلاحيتها، أو إذا ما ارتدى من يزعم العلم ثوبَ الخرافة وقدّم نفسه على أنه أهل الحقيقة. فكيف إذا اجتمعت هذه المسوّغات كلّها؟

(فرانك هوغربيتس)

إذاً، بمسارٍ معكوس يشبه حالة بنجامين بتن، الرجل الذي ولد على هيئة عجوز وكلما تقدم بالعمر راح يصغر، ولد «العالِم» فرانك هوغربيتس من لحظة شيخوخة العلِم وبلوغه أعتى الخلاصات، بل عندما قضى العلم نحبَه، وعلى وجه الدّقة، عند موت فرع من فروع العلوم: السيسمولوجيا؛ أي علم الزلازل. وإثر ذلك الموت، انبثق «منهج» حديث، رائده فرانك هوغربيتس، جمَع بين علم الفلك وأقصى ما وصلت إليه الجيولوجيا؛ أي علم الأرض، ليمدّ البشرية بنصف أجوبة، وحزمة كبيرة من فرضيات تطال أحوال الحاضر وأهوال المستقبل، ذلك حتى لا تنهش الديدان المتناسلة من تلك الجثة الميتة أرواحنا، وحتى لا يروِّع الغموض عقولنا، فالغياب مهيب ومروّع كحال الغيب وغموضهِ.
إنها قصة ولادة فرانك هوغربيتس، «العالِم» الهولندي الذي تنبّأ السنة الفائتة بزلزالٍ سيضرب تركيا ومحيطها قبل ثلاثة أيام من وقوع زلزالَي تركيا وسوريا واللذين أسفر عنهما أكثر من خمسين ألف قتيل. «العالِم» الذي لن نجد له صفحة خاصة على موقع ويكيبيديا إن قررنا التفتيش عنه فيها، رغم تصدّره قائمة البحث على الإنترنت في العام الماضي لمدة شهرين تقريباً، إلّا أننا سنجد سيَراً كثيرة تشبهه، وتحاكيه، في حال قرأنا عن التنجيم وبداياته، وهو فعلٌ لا يولد إلا عندما يغيب العلم أو عندما يصل إلى نهاياته ويرفع أصابعه العشرة.
يُقال عمن يمارس التنجيم إنه منجّمٌ، والمُنجّم غالباً ما يتفاخر بمهنته ويتباهى بها، فيحجز لنفسه، على طراز شيخ القبيلة، مقعداً أعلى من مقاعد العامّة يزيده هيبةً واحتراماً، فبالنهاية هو من يحوز على أسرارٍ لا يمتلكها أحدٌ، ولديه ما لديه من الحكمة والمعرفة اللتين تجتمعان في شخصه. أما هوغربيتس الذي لم ترق له حقيقة أن النقص واستحالة الوصول إلى معرفة كليّة وشاملة هما أيضاً حقائق يعترِف بهما العلم، قرر خوض المجهول، والمكوث في المنطقة المتاخمة للمنطق والعقل، التي تستدعي، بطبيعة الحال، الاستعانةَ بالخرافة أو التنجيم، وما زال يعاند ويصرّ على أنه «عالم»، وأن «علميّته» من نوعٍ آخر، ومقعده محجوز ومشيّد على جميع منصات وسائل التواصل الاجتماعي، رغم أنه تعرّض لعدد من التبليغات التي من شأنها إيقاف خزعبلاته، أي حسابه الشخصيّ على تويتر، ولكنه باقٍ وصامدٌ وشامخ، فتويتر أهل، بل بيت، الخزعبلات أيضاً.
قبل أن نتعرف إلى هوغربيتس بكثير، عرّفنا علم الأرض على بُنية الأرض وطبقاتها، على الصخور التي تتكوّن منها والعمليات التي تحدث فيها مع مرور الزمن. في وسع هذا العلم إدراك القوى والحركات التي تحدث في مناطق معينة من القشرة الأرضية، كما يمكنه دراسة عمر الأرض عبر تفحّصه الطبقات التي تكوّنها أو ما يُعرف بالصفائح التكتونية. ودراسة الصفائح التكتونية تصبّ تحديداً في كيفية تشكّل الجبال والبراكين، باعتبارهما انزياحات عن المساحة المستقيمة، وظواهر طرأت على الأرض بفضل الزلازل وطوفان البحر وغيرها. أما علم الزلازل، الرجَّاجة، أي السيميولوجيا، فيقتصر دوره على دراسة سجل الحركة الأرضية المرتبة ترتيباً زمنياً باسم السجل الزلزالي. يمكن لعلم الزلازل أن يجري بحوثاً في زلازل سبق أن حدثت، ولكنه عاجزٌ عن تحديد ما إذا كانت الأرض بسبب دوختها من كثرة دورانها ستهتزّ أثناء كتابة هذا المقال أو بعد مئة عام من الآن. هناك جبلٌ نستطيع أن ندلّ عليه، ونستدلّ على معرفتنا من وجوده، يمكننا أن نراه وأن نفهمه وأن نبتعد عنه في حال شعرنا بأن صخوره تتهاوى، ويمكننا أن نصعد عليه عندما تغطّيه الثلوج لنتزلج، ويمكننا أن نتكهّن بأن وراءه ثمة قعرٌ وهاوية. التكهّن هو صنو الفراغ الذي لم يُملأ بعد.
فرانك هوغربيتس، على الأرجح، لم تعجبه الفجوة أو الفراغ الذي تركه علم الزلازل وراءه وأراد ملأه، أراد البحث في تلك الهاوية وراء الجبل، ولكنّ تلك الهاوية تكتنفها، وهذا ما يُثبته العلم، قوى وطاقة تستطيع سحبه وابتلاعه. لماذا ينظر علم الزلازل في السجلّات التاريخية وليس في روزنامة الأيام القادمة؟ تساءل، وبدأ بأبحاثه. منهم من قال إنه استمد أسس نظرياته من ابن الهيثم، وآخرون من الموجة العلمية التي سادت بغداد منذ أكثر من ألف سنة، ومنهم من قال إن المنطق ليس واحداً، فإذا نظرت إلى زوايا الأهرامات وطريقة هندستها فربما ستستنتج أن هؤلاء القدامى لم ينطلقوا من مسلمة أن الواحد زائد واحد تعني اثنين. بكل الأحوال، تبقى إبستمولوجية فرانك هوغربيتس المتّبعة غامضة مثل الموضوع الذي يتعامل معه، والغموض أساساً هو سرّ نجاحه، فجميعنا نرتعد من المجهول، ونريد زوال الضباب وأن ينير أحد الطريق، حتى ولو كان ذبابة، أليس كذلك يا فرانك؟
إذا كانت الكنبة عنصراً أساسياً في عيادة المحلل النفسي وجزءاً لا يتجزأ من رحلة العلاج، لأن الاستلقاء عليها يُفسح المجال أمام المستلقي للتداعي الحر حتى الهذيان والكشف عن كل مخبوء، فإن الكرسيّ الذي تجلس عليه لكي يبقى كرسياً ثابتاً ولا يهتز، ولكي يبقى الجالس عليه مطمئناً وليس مرعوباً، يتوجب عليه مقاتلة الحيرة التي تراوده ومعالجة هذه الحيرة مع من تعمّق بها. فرانك هوغربيتس كرّس نفسه لكي يكون معالجاً لهذه الحيرة، حتى غدا حالة محيّرة. الحائر لن يبقى حائراً مع فرانك هوغربيتس؛ سيختصر «منهجه» بتعريفٍ بسيط، يختزله بأنّ قوامه هو حركة الكواكب وشيء من حركة الأرض، أي دورانها وجاذبيتها وإلخ. وعندما يتقابلان؛ أي كوكب الأرض وكوكب زحل مثلاً، ستحدث هزة أرضية وتقدّر بكذا وكذا على مقياس ريختر. قد تبدو المسألة بالنسبةِ إلى شاعرٍ متهم بالشعوذة وتحضير الأرواح أن هوغربيتس استعارة بليغة، قابلة للاستعمال في وصف قارئ\ قارئة الفنجان، حيث الثِّفل المتبقي من البنّ لوحة فسيفسائية تختزن في خطوطها شيئاً من أسرار المستقبل. وقد يبدو هوغربيتس، بالنسبة إلى كثيرين، نسخةً «علمية» عاقلة من شخصية «رشيد» من مسرحية «فيلم أميركي طويل»، «رشيد» المُصاب بأمراض عصبيّة ويلحّ على طبيبه لحفر الأرض، لـ«بحشها»، بحثاً عن «إشاراتٍ» وجب التقاطها وفهمها.
تلك الإشارات سنرى مثيلاً لها، الإشارات تفيض على قناة فرانك هوغربيتس على يوتيوب. سنجد شاشات وألواحاً مرسومة عليها دوائر ونجوم وما شابه، مع شرح معمّق ومستفيض يقدّمه فرانك هوغربيتس، لدرجة أننا لن نفهم عليه شيئاً. نظريات أقصى ما يمكن أن تناله من مدحٍ القول فيها «بسودو-علمية»؛ أي علم مزيّف. لكن ليس بالعلم وحده يحيا الإنسان، فالعلم يقتل الإنسان أيضاً، فهات يا فرانك دواءً لداء العصر، عصرنا الغارق بالحيرة وغياب اليقين، واسقِنا من واحتك حتى ننعم بالسلام والطمأنينة. لم يخفِ فرانك هوغربيتس أساساً مجال عمله والكلمة المفتاح. يعرّف عن نفسه على موقعه الإلكتروني بأنه مختص بالسيسمولوجيا ويتوّقع الزلازل. على أنّ من يزعم التوقُّع يعني أنه يمتهن النبوءة مهما جاء المعنى خفياً أو مضمراً. التوقُّع هو تكهنٌ محض، إنه تخمين وتقدير وحزر، ولكنه عند «العالِم» الهولندي نبوءة ستتحقّق. ففرانك مثل لاعب الروليت الذي يثق ثقة شديدة بالرقم الذي يراهن عليه، إذ غالباً ما يفصح عن توقعاته بثقةٍ مفرطة، ونبرةٍ حازمة، وكأن ما يتوقعه سيحصل لا محالة. تحضر تلك التوقعات بلغة جازمة، إذ يزوّد القابعين في المناطق التي توقّع حدوث زلازل فيها بتوصياتٍ لأخذ الحيطة والحذر، وأمنياتٍ طيبة قادمة من هولندا كذلك.
وتوقعات فرانك هوغربيتس تجيء ظاهرياً كخلاصة لـ«منهجه»، وهو، أي منهجه، ضرب من ضروب التبصير، أي التنجيم. فبدلاً من مطالعة الكف يقرأ فرانك هوغربيتس تباشير السماء ولعنة الأرض، والحال أنه في الجوهر، كأي منجم كلاسيكيّ، إذ ليس هناك سوى الحظ ليسعفه، باستثناء وحيد بينهما، أنّك ستحصل على متعة التسلية في جلسةٍ مع المنجّم، وخصوصاً إذا كانت في الخيمة.
وهكذا راح يتكهن، وطالت تكهناته وكثُرت، إلى حين وقوع الفاجعة المدوّية في 6 شباط 2023، إذ أصاب بما توقعه، ولكن بعد تعثّر كثير من توقعاته السابقة. لم يكن فرانك هوغربيتس شخصية معروفة أو ذا شأن قبل هذا الموعد، أي قبل حصول الزلازل الرهيبة. في النهار الذي تلا الفاجعة، بات نجماً من الصف الأول. ولأن توقيت الزلازل حدثَ في شهر شباط، وهو يندرج كرونولوجياً في الأشهر الأولى من السنة، ارتأى البعض أن فرانك هوغربيتس لا يمكن زجّه أو تصنيفه في خانة شخصية العام، كما يجري الأمر مع لاعبي كرة القدم حيث يفوز واحد منهم بجائزة الحذاء الذهبي بعد تقديمه أفضل أداءٍ، بعد أن يمضي الموسم الكامل. ففرانك بـ«منهجه» «خارج الزمن»، ولا يمكن قياسه بناءً عليه، لذلك فقد صار، نبيّ العصر الذي لا يحتاج إلى زمان، وبفضل الإنترنت فهو في كل مكان. آنذاك، ارتفع عدد متابعيه على تويتر من عشرة آلاف إلى مليون وثلاثمئة ألف في غضون أيامٍ، جميعهم كانوا يزورون صفحته لكي يُبددوا خوفهم وهواجسهم، أما إذا كان الخطر، حسب توقعاته، مداهماً وقريباً، فراحت الجماهير تفكر في كيفية الاحتراز من الخطر وتجنبه في إبداع خططٍ بديلةٍ وحلول وقائية.
في بدايات عام 2023، كان فرانك هوغربيتس بوصلة وجودية لكثير من الخائفين مما يسمى بلغة الأرض «الموجات الارتدادية». الخائفون من أن يرتد الزلزال عليهم ويضربهم في مناطقهم، وكاتب هذه السطور كان واحداً من هؤلاء. حدث الزلزال وكانت نتائجه كارثية. يخبرنا العلم أن عوامل عدّة تسهم في نشأة الزلازل وحدوثها، يبقى أن لا أحد يمكنه معرفة متى سيحدث وإذا كان سيحدث فعلاً.
من تلك الجملة الاعتراضية، من لحظة ورود «يبقى»، لنا أن نفهم أن الوجود لا يكون دائماً مستقيماً، وأنّ الطريق ليست مترابطة ومتماسكة بشكل حتميّ بل معرضة للتبعثر، والخربطة والقطيعة. تحتك قطعتان أو صفيحتان من الأرض في حركة معاكسة، واحدة في طريقها صعوداً والثانية في طريق النزول، وهذا يحدث طوال الوقت، الآن بينما أهزّ رجليّ مثلاً، ولكن أحياناً تطول مدة الاحتكاك، وتكون الصفيحتان كبيرتين، فيحدث زلزال وهو الهزّة الأرضية القوية، وينجم عنه تفسخ في الأرض، تشققات، وأحياناً يحدث انفصال، إذ تنفصل القطعتان بعضهما عن بعض فتتشكل جزر. عندما لا تجد جواباً عن مسألةٍ محيّرة، تشعر بهذا التفسخ. ألبير كامو عرّف العبثيّة بأنها التفكير المعقول في اللامعقول، وهو لحظة عدم ملاقاة جوابٍ عن سؤالٍ حيث يلفح الهواء وجهك. إنه الانفصال إذاً، هي القطيعة. عرّاب ما بعد الحداثة، جان فرانسوا ليوتار، أخذ من «الزلزال» أثره، وتحدث عمّا سماه «السرديات الصغرى». فـ«السرديات الكبرى»، ويقصد ليوتار الأيديولوجيات التي تؤكد حتميّة التاريخ، والأفكار التي تنص على الترابط والانسجام والتناغم في الخط الزمني، هراء.
لا يستطيع العلم أن يقدم لنا جواباً وافياً إن كان سيحدث زلزال بعد قليل إذاً، ولا البيولوجيا قادرة على إعطائنا توقيتاً دقيقاً عن لحظة توقف القلب عن خفقانه. وبينما انتبه لهذه الحيرة - وهي خوفٌ شديد، قلق وجوديّ أصاب هرمان هسه ودفعه لاعتناق المذاهب الروحانية الشرقية – الفلاسفة، وعلى رأسهم سقراط الذي أشار إلى أنّ التفلسف هو تعلّم حبّ الموت، أي تقبّل حدوثه وحقيقته، وعوضاً عن التوجّس منه وجب الالتفات إلى المُعاش، حضر فرانك هوغربيتس مع خلطةٍ سحرية تجمع بين علم الفلك وأعاصير البحار، ليبدد لنا الخوف من الموت على غفلة، والحيرة من أمره. فالزلزال هو شبح الموت، ما إن يحضر حتى تكون نهايتنا، والعلم الذي استطاع اكتشاف بعوضة حيّة تلهو على سطح القمر عاجزٌ عن الإتيان بداءٍ يداوي هذه الجائحة. هذا جرح في كبرياء البشرية، غياب العلم هنا أو موته، عليه أن يعوَّض وإلا فغيمة سوداء كبيرة ستخيّم على البشرية.
فرانك هوغربيتس، هو باب الغياب إن فُتح. ولد «العالِم» في شؤون الزلازل، والخبير في توقيت حدوثها، عند موت فرع من فروع العلوم: علم الزلازل، السيسمولوجيا؛ أي الرجّاجة. ارتجاج واحد مثل الولادة، كافٍ، فكيف إذا كان الموت هو الارتجاج الأخير؟ وكيف إذا سبقت الموت حالة الارتجاج، أي ماذا لو كان الموت نتيجة عذاب وشقاء وخضّات عنيفة؟ ولادة فرانك هوغربيتس ولادة طبيعية وليست ناجمة عن عملية شق في البطن. قد يصح أن نصفهُ بخاصرة العصر الرخوة، أو المهرج الذي لا يلقي نكاتٍ بل يبشّر بالمأساة. وهذا من إفرازات الحداثة التي وعدت بإدراك الطبيعة، وسبر أغوارها وفهمها، بل لجمها وتأديبها إن لم تطع الإرادة البشرية.
مع ولادته إننا أمام المعلوم بدل المجهول، الطمأنينة بدل الحيرة، معرفة الغد عوضاً عن الخوف من الموت، وإذا كان هذا الامتلاء ليس بسبب العلم، فليذهب العلم إلى الجحيم. فهناك زلزال يضرب قواعد الوجود بذاته، نتحدث عن تهديدٍ يواجه المرء في أي لحظة، قد يكون داخل سيارته يستمع إلى تراتيل الميلاد مثلاً، وفجأة يحدث زلزال فتنحرف سيارته عن الوجهة وتضرب الحائط، فتنكسر رقبته ويموت. زلزال ضرب الوجود أصلاً، في ضربه لفرع من فروع العلوم، عندما تفسّخت المعرفة وتحللت، عندما لم نلقَ جواباً عن سؤال: هل سيضربنا زلزال؟
أن تعرف ما تجهله هو شكل من أشكال المعرفة أيضاً. لا نعلم متى سيحدث زلزال، وإن كان سيحدث أم لا. فرانك هوغربيتس يرفض هذا الجهل ويزعم أنه يعطيك المعرفة التي تريدها، ولكنّ خطأه في حال لم يحالفه الحظ ولم يصب في توقعاته، سيكون على مسؤوليتك. هو لا يأخذ تعرفة مقابل توقعاته أو نبوءاته، ولكنّه مثل كثير من «النجوم»، من المنجّمين، الذين سيملؤون الشاشات غداً، يأخذ ربحه جراء كميّة المشاهدة. وبين النجوم والتنجيم ثمة كثير من أوجه الشبه، ليس من ناحية اللفظ فقط، بل من ناحية الوجهة، فالاثنان بعيدان عن الأرض، وينطفئان بمجرد اقترابهما، مثلما انطفأ فرانك هوغربيتس، الذي كان يوماً ما، شخصية العام، والذي لم يستطع إطفاء خوفنا.