بيار أبي صعببيروت مدينة غريبة. كلّما اجتاحتها كارثة نراها «تنبعث من رمادها كطائر الفينيق» وتعود إلى البزنس. كلّما دخلت حرباً أهليّة، ازداد فيها التبشير بالسلام والوئام واللحمة الأخويّة والوحدة الوطنيّة. كلّما تحلّق من حولها رجال المذاهب المتلاطمة، ازداد إصرارها على أن تكون المدينة العصريّة بامتياز. كلّما ارتفعت فيها نسبة المحافظة ومظاهر التديّن الفولكلوري، وهدّدتها الردّات، تتدفّق جحافل السيّارات الفخمة والصبايا السكسي، على الـ«داون تاون» والجميزة التي امتدّت إلى مار مخايل... باعت روحها للشيطان مليون مرّة، ثم استردّتها. باعت اعلامها وأراضيها وانفتاح طبقتها الوسطى وبحرها وبرّها وجوّها، لكنّها لا تزال فخورة بنفسها، معتدّة بتلك المنارة القديمة على البحر. لا تقولوا لها إن المنارة المخطّطة بالأبيض والأسود كما نجدها في صور الرحّالة أوائل القرن الماضي، غرقت في أدغال الباطون، فلم يعد يظهر من الكورنيش سوى رأسها المثقل بالذكريات.
بيروت أعجوبة اقتصاديّة. من المفروض ـــ حسب المعايير العلميّة ـــ أن تكون أعلنت إفلاسها من زمان. لكنّها تتظاهر بأنّها تعيش في رغد ونعيم، معتمدةً على بركات الاغتراب وعائدات الكاباريه، متكئة إلى اقتصاد مواز، وخيرات غير منظورة تتدفّق إليها في السرّ والعلن. كلا، من قال إنه اقتصاد طفيليّ؟ كلما ازدادت وطأة الأزمة العالميّة، تراها سادرة في غيّها، تواصل ممارسة طقوسها وعاداتها المطمئنّة، كأن شيئاً لم يكن. أسعار العقارات ترتفع، والبيوت العريقة في عين المريسة أو الجمّيزة تتهاوى بكلّ بساطة، لتشرئب مكانها عمارات شاهقة سوبر دو لوكس. ترى من سيسكن تلك الشقق الفاخرة، وأين يذهب «العمران» بـ«السكّان الأصليّين»؟
بيروت مدينة طوباويّة أو مدّعية، من يدري؟ أعيد إعمارها من دون مسرح واحد أو متحف للفن الحديث، لكنّها ما زالت تظنّ نفسها عاصمة ثقافيّة. لا أحد يذهب لمشاهدة الأفلام والمسرحيات، ولا أحد يشتري الكتب، ولا أحد يقصد المعارض التي تزهر بالعشرات. ومع ذلك، فبيروت «عاصمة عالميّة للكتاب»... و«عاصمة النشر في العالم العربي»... تفتخر بأن معرضها «العربي الدولي للكتاب» هو الأقدم في المنطقة. باختصار بيروت عاصمة كلّ شيء... عاصمة النهضة الضائعة، ومشاريع التقدّم المؤجّلة أو المجهضة. عاصمة كل شيء إلا نفسها، فهي لا تحبّ أن تنظر في المرآة.
بيروت عاصمة الحريّة العربيّة، يصرّ أصدقاؤها في دمشق وتونس والرياض وغزّة وعمّان... صحيح، بيروت «واحة حريّة» ـــ بالغلط ربّما. أو بقوّة العادة ـــ لكنّها لا تعرف كيف تستفيد من تلك الحريّة. يبدو أن بيروت مدينة جميلة أيضاً، فهل نقول لها: «كوني جميلة واخرسي»؟