صحافة بيروت تدخل شيخوختها القاتلة. عوارض الموت تسيطر على القسم الأكبر منها، والحاجة إلى تحديد الوظيفة والدور، لا تزال حبيسة الغرف المغلقة، بينما يسير العالم من حولنا نحو تلبية ما هو حقيقي في حاجات الناس
إبراهيم الأمين
كما في كل العالم، تواجه الصحافة المكتوبة في لبنان أزمة وظيفة ودور. ولكن المشكلة في الأمر، أنه لا أحد من المشرفين أو المقرّرين في واقع هذا النوع من الإعلام، يريد الاقتراب من غرفة النقاش، ولا حتى طرق الباب. بل إن الغالبية تخشى على ما تعتبره «إنجازات العمر» إن قرّرت الإقدام على خطوات لا يمكن تجاوزها في سياق احتلال موقع في وسائل الاتصال القائمة في عالمنا اليوم.
لا يقتصر الأمر على الهروب من أزمة الورق وحسب، بل على الهروب أيضاً من مهمة تطويع وسائل الإعلام الحديثة في خدمة دور إضافي ووظيفة مميّزة تعطي الإعلام المكتوب شرعية للبقاء على قيد الحياة. وهذا أمر قائم في التبعية المخيفة القائمة عند الصحافة المكتوبة لوسائل الإعلام المرئية، وفي اقتصار التعامل مع شبكة الإنترنت على حدود إيصال ما كتب للأوراق في طبعة إلكترونية، دون أيّ تعديل حقيقي في وضعية جهاز الإنتاج المتمركز أساساً في هيئة التحرير.
ومثل حال العالم كله، فإن صحافة بيروت لن تتقدم سريعاً نحو الصيغة الإلكترونية من دون ضمان الحصول على عائدات توازي ما توفّره من الصحافة الورقية، وهي عائدات تتراجع يوماً بعد يوم. وذلك بسبب تراجع حاجة الجمهور إلى صحافة بليدة وهرمة وخالية من أيّ إضافة، ما ينعكس تراجعاً مذهلاً في حجم انتشار الصحف محلياً (يبدو أن الرقم الأقرب إلى حقيقة ما يطبع يومياً من صحف لبنان، هو ما يقل عن مئة ألف نسخة، تستيعد وسائل الإعلام نحو ثلثها على شكل مرتجع، فيما تحصل على عائد مبيع لنحو ستين بالمئة منها). كما تراجع انتشار الصحافة لأن الاجيال الجديدة المقبلة على حيوية في كل المجالات، لا تجد ما تريده في الصحافة المكتوبة، وإذا اضطرت إلى متابعتها، فهي تلجأ إلى النسخة الإلكترونية كوسيلة للاستعلام والمتابعة.
إلا أن أزمة الإنتاج هنا، لها واقعها غير المطروح للعلاج بصورة منطقية أو جماعية، بل تجري معالجته بطرق منطقية ولكن غير قانونية، وبصورة فردية تعكس ضيق الأفق لدى كثيرين من المعنيين، الذين يعكسون خللاً أكبر لعدم مواكبتهم آليات توسيع دائرة المستهلكين لتوسيع دائرة الاستفادة. وهو خلل يقوم أصلاً على غياب البعد المؤسساتي عن غالبية المؤسسات الإعلامية المكتوبة، ويتعمّق يوماً بعد يوم عندما لا يتم الفصل بطريقة منطقية بين مصالح هذه المؤسسات ومصالح المالكين لها أو المشرفين عليها، ولو عن بعد.

صار بمقدور القارئ أن يقول إنه «قارئ الغد»، ولم تعد الصحافة قادرة على ادّعاء أنها «صحافة الغد»

قامت «الأخبار» على حقيقة أنه يمكن إنتاج شيء مختلف، وهو الاختلاف الذي قبله الجمهور
وبين هذا وذاك من الأسباب، تواجه الصحافة المكتوبة مصيراً قاسياً إن لم يبادر أهلها، من المؤسّسين إلى المالكين والناشرين إلى العاملين، إلى إطلاق ورشة عمل لا تخضع لأيّ شروط مسبّقة، ولا تعيش أسيرة الخوف من إعلان الفشل.
وأزمة الإنتاج هذه متصلة أساساً بأن صحافة بيروت غرقت في قضايا محلية لا تشبه لا أصل الصحافة اللبنانية ولا أهدافها. وكشفت هذه المقاربة عن إحباط كارثي لدى من بيده الأمر، من إمكان أداء دور جدّي، وكشفت عن عجز عن مواجهة الضغوط والمسؤوليات، وكشفت عن تخلٍّ عن الدور الذي يتجاوز مسألة العرض والطلب، كما كانت حال الصحافة في فترة تحويلها إلى مصدر استخدام بين المتصارعين من الأنظمة والحكومات والأجهزة في لبنان والعالم العربي. وهو الدور الذي ارتضته الصحافة لنفسها، مقابل حصولها على ما تعدّه «حقاً مكتسباً ومسلوباً» ليس هناك من وسيلة لتحصيله بغير الوصول إلى ما يضع يده عليه، سواء جرى ذلك بالرضى أو الغصب، بالتفاهم أو الابتزاز، بالتعايش أو بالمعارك التي تشنّ بالواسطة.
لكن، من دون سابق إنذار، لم يعد أصحاب المال في المنطقة يحتاجون إلى صحافة بيروت. تراجعت الخشية منها يوماً بعد يوم، حتى باتت الصحافة المكتوبة في لبنان تخشى على نفسها من غضب هؤلاء.
صحيح أن القابضين على الموازنات الإعلانية تحكموا في كثير من الأمور، لكن لجوء أصحاب المال العربي إلى التعامل مع النتائج الحديثة لتطوّر علم الاتصال والتواصل، أوجدهم في مساحة مهنية وإعلامية وإعلانية تتجاوز بسنوات ضوئية واقع الصحافة المكتوبة في لبنان. بل صار بمقدور هؤلاء التأثير في مستقبل صحافة بيروت، والتلويح لها كلما تيسّر لهم الأمر، بأنهم قابضون على روحها.
وخلال عقدين من الزمن، نجح أصحاب المال العربي في تحرير صحافيين من قبضة أصحاب صحف لبنان، قبل أن يضعوهم في سجنهم الذهبي الجديد، الأمر الذي هدّد نوعية الإنتاج في صحافة بيروت، وأفقدها الكثير من عناصر القوة المهنية لديها، وحوّلها مع الوقت إلى طابعة لما يصدر عن وكالات أنباء تشرف عليها دول وحكومات وأجهزة مالية وأمنية عالمية. ومع الوقت، استسلمت صحافة بيروت لمستوى من الإنتاج جعلها تشبه بعضها بعضاً في اختيار الأحداث للمعالجة، وعناصر التمايز تشبه العناصر التي يعرفها الجمهور في الطبقة السياسية. وصار بمقدور القارئ أن يقول إنه هو «قارئ الغد»، ولم تعد الصحافة تقدر على ادعاء أنها «صحافة الغد».
ومع أن الرتابة السياسية في لبنان أسهمت بقوة في تخلف صحافة بيروت، فإن الهروب من النقاش ومن كلفة التغيير ومن عبء التطوير، كل ذلك جعل صحافة بيروت المكتوبة مكشوفة إلى حدود تحتاج إلى خطوة مخالفة. وفي لحظة استنئناف الانقسام السياسي في لبنان والمنطقة على خلفية صراعات تتصل أساساً بالصراع بين العرب وإسرائيل، كان لا بد من اللجوء إلى ضربة من خارج السياق، وإلى محاولة مختلفة، يمكن البعض أن يصفها بالمغامرة غير المحسوبة، وفي هذا السياق ولدت «الأخبار».
كانت القاعدة الأولى للبحث تأخذ في الاعتبار كيفية توفير إطار مؤسساتي، يجمع بين الحاجة إلى وجود شراكة تجارية تدافع وتحاسب وتدقق وتصل إلى خلاصات وإلى قرارات من جهة، وتوفير حصانة خاصة لجهاز الإنتاج المتمثّل بهيئة التحرير، يمنع إخضاعه لقواعد اللعبة الموجودة في بقية المؤسسات، من جهة ثانية.
وبين الهدفين، ثمة حاجة إلى ترجمة إمكان إنتاج صحيفة عصرية، حديثة بكل ما تحتويه من مقاربات وآليات عمل، وهو أمر يجب أن يجري بمعزل عن ضغط «العادة» لدى الجمهور المتعَب من صحافة اليوم، وبالتالي السعي إلى الحصول على دائرة مهتمّين وقرّاء من خارج النادي التقليدي الضيق، الذي صار ينحسر مع الوقت إلى حدود معيبة.
ثمة سباق غير مفهوم قائم الآن في لبنان على من يفوز بالموقع الأول للانتشار. التبرير المعلن هو القول إن من يحقق الانتشار الأكبر يفوز بالحصة الإعلانية الأكبر، وهو أمر غير قائم على الإطلاق. فـ«النهار» التي تعدّ الأعرق بين صحافة بيروت، لم تعد منذ فترة الأكثر انتشاراً، ومع ذلك ظلت صاحبة الحصة الإعلانية الأكبر. وهو أمر لا يتناقض فقط مع المعايير المفترضة للعلاقة بين المعلن والمستهلك، بل مع المعايير التجارية البديهية، بعدما صارت أغلبية اللبنانيين متساوية في القدرات التعليمية والشرائية.
وإلى جانب «النهار»، تراجعت صحيفة «السفير» لناحية عدم قدرتها على التوسع أفقياً أو عمودياً في لبنان، بسبب عدم تخلّيها عن دورها التمثيلي لجهة لها واقعها الطائفي، ثم لكونها سعت كي تحتل موقع «النهار» في أن تكون صوت الائتلاف الحاكم. أمّا «الديار» التي أرادت لنفسها موقعاً أقلّ نخبويةً وأكثر اتصالاً بلغة العامة من الناس، فقد اهتزت يميناً ويساراً حتى ارتاحت في موقع ملتبس رفضه قسم كبير من جمهورها، فيما بقيت صحف أخرى مثل «اللواء» و«الأنوار» و«البيرق» و«الشرق» أقرب إلى لعبة «الباقي على قيد الحياة مهما كلف الأمر». وهي اللعبة التي تجعلها خارج إطار التأثير الفعلي.
أما التجارب الحديثة، كتلك التي قامت مع «المستقبل»، فقد مارست الانتحار الذاتي من خلال اللجوء إلى صيغة الإعلام الحزبي، معطّلةً قدرات مهنية كان يؤمل منها الكثير. أما «البلد»، فقد ارتضت لنفسها سلوكاً تجارياً أبقاها على الدوام خارج إطار الصحافة المنافسة بالمعنى المهني، عدا عن أن تجربتها التجارية صارت محل تساؤل وتدقيق.
بالنسبة إلى «الأخبار»، فقد قام الأمر على حقيقة أنه يمكن إنتاج شيء مختلف، وهو الاختلاف الذي قبله الجمهور. صحيح أنها لم تحظَ بعد بالانتشار الورقي الذي يقدّمها أولى بين متساوين، لكنها أعطت انطباعاً جدياً عن أزمة الآخرين، وعن القدرة على فتح النقاش عملانياً، والدخول في تجربة التغيير على جميع المستويات، بما في ذلك مستوى توفير مستلزمات الإنتاج المادي، وهي التجربة التي سوف يأتي وقت قريب، لكي تظهر للجمهور في لبنان وخارجه، أنه يمكن إنتاج صحافة ذات مهنية عالية، وذات جودة عالية، وذات فائدة تجارية عالية أيضاً. وهو الأمر الذي عملت الصحافة الهرمة خلال العقود الماضية على نفيه، وعلى افتراض استحالة توافره.
صحيح أن معايير الموضوعية والمهنية قابلة للأخذ والرد في بلد محكوم بسجالات متنوّعة، وهو أمر يصيب «الأخبار»، لكن الأهم في هذه التجربة، أن آليات الإنتاج تفترض استعداداً لتحمّل مسؤولية ما تقوم به، وأن تقبل حكم الجمهور عليك، وأن تسعى إلى التغيير حيث هناك حاجة، وحيث هناك اقتناع.