strong>سناء الخوريمن يدّعون امتلاك مفاتيح حرية التعبير «مدجّنون»... هذه الخلاصة خرج بها سيرج حليمي في كتابه «كلاب الحراسة الجدد» الصادر للمرة الأولى عام 1997. حينها وجه الصحافي والباحث الفرنسي المعروف نقداً لاذعاً للجسم الصحافي في فرنسا، متهماً أسماءً لامعة بمهادنة السلطة السياسيّة والمالية. أعاد حليمي طبع كتابه المرجعي عام 2005، ليقول لنا إن القضية ما زالت راهنة، ويحيلنا ــــ ضمن ممارسات كثيرة أخرى ــــ إلى رقابة ذاتية يمارسها بعض الصحافيين لأسباب بعيدة عن الاعتبارات المهنية والمحظورات القانونيّة.
تجد خلاصة حليمي القاسية صدىً لدى أبناء مهنة المتاعب في لبنان. فرغم هامش الحريّة المفترض، تتحاشى المؤسسات الإعلامية التطرّق إلى ملفات عديدة، وإن تطرقت إليها فمواربةً.
«أن يتصرّف الصحافي كالخائف من الكف، فيتجنب تسجيل رأيه»، هذه هي الرقابة الذاتية بحسب إبراهيم دسوقي. يلاحظ مراسل قناة «الجديد» أنّ «الخطوط الحمراء متحركة في لبنان، فبعض المؤسسات قد تتفادى مثلاً فتح ملف نقابة المحررين، وبعضها الآخر يتفادى المس باتحاد كرة السلة»... ويحدد سياسة الرقابة الوقائية هذه النهج العام للمؤسسة الإعلامية ومصالحها. هنا شخصيات ممنوع المس بها، وهناك قضايا لا تفتح رضوخاً لتبعية سياسية ــــ مالية، أو لمصالح تجارية، إضافةً إلى ابتزاز بعض المؤسسات الإعلانية... من دون أن ننسى الجو السياسي العام.
في هذا السياق، تفصل دنيز رحمة فخري بين عملها اليوم، وعملها تحت «وطأة النظام الأمني» حين «كنا نتحاشى التطرق إلى ملفات المعتقلين في السجون السوريّة مثلاً... تحولت تلك الرقابة الذاتية إلى «خصلة» ومشينا مع القطار»، تضيف رئيسة قسم المراسلين في «أم. تي. في». من جهته، يفصل نبيل بو منصف أيضاً بين المرحلتين، «إذ كلفت الرقابة القسرية في المرحلة السابقة بعض الصحافيين حياتهم»، يقول. لكنّ مسؤول المحليات السياسيّة في جريدة «النهار» يرى أنّ «الصحافي يجب ألا يكون انتحارياً. يمكن نقد مظهر اجتماعي معين من دون خدش الشعور العام. مش عايشين بالسويد نحنا»، يقول. من جهته، يضع مسؤول العلاقات العامة في تلفزيون «المنار»، إبراهيم فرحات مسألة الرقابة الذاتية في «إطار المسؤولية واحترام القانون»، «من دون أن ننسى أننا بلد متعدد الطوائف»، يذكّر... التطرق إلى العائلات الدينية سقف يرفض الجميع تخطيه، وقس على ذلك لناحية تحريم ذكر الشخصيات والمؤسسات الروحيّة والدين...
في هذا الإطار، يتذكر زياد نجيم إحدى حلقات برنامجه الشهير «الشاطر يحكي»، وكان موضوعها «الله». «اتصل بنا مرجع روحي كبير مقرب على الأرجح من البطريركية المارونيّة، وقال لنا «ما بيصير تسألوا إذا الله موجود أو غير موجود»، يخبرنا، ويضيف: «حرية الصحافة في لبنان كذبة كبيرة. قسم كبير من الصحافيين اللبنانيين مأجور للسلطة الدينية والسياسية وأجهزة الاستخبارات».
إلى جانب الجيش الأسود، تبقى المؤسسة العسكريّة المحرَّم الأكبر في الصحافة اللبنانيّة وفق ساسين كوزلي. يعتقد الصحافي اللبناني أنّ «الصحافيين يكتفون برواية الجيش اللبناني الرسميّة للأحداث، ويتجنبون التشكيك فيها». في سياق آخر، لفت كوزلي إلى أنّ بعض وسائل الإعلام القريبة من المعارضة تمارس رقابة ذاتية. «نجدها تتحاشى التطرق إلى الشق السياسي من عمل حزب الله، أو ذكر مآخذ على توجهاته الاقتصادية وأدائه العام، انطلاقاً من دعمها المطلق للمقاومة. يمارس «تلفزيون المستقبل» أمراً مشابهاً إذ يوجه كل تغطيته للأحداث ليبرهن وجهة نظر معينة»، يقول.
أمّا في قضايا الفساد، فلا تملك معظم المؤسسات الإعلامية الاستعداد الكافي لخوض مواجهة، بسبب عدم قدرتها على تحمل التبعات القضائية. «هناك ملفات حساسة لا أستطيع أن أذهب في معالجتها إلى العمق، مثل سوليدير، والمهجرين، و«الهيئة العليا للإغاثة»، و«مجلس الإنماء والإعمار»، وكل ما له علاقة بالمصاري والصناديق»، تقول شيرلي المر. تبقى الأولويّة بالنسبة إلى مقدمة برنامج «فكر مرتين» على «أو. تي. في» «عدم التشهير بالناس». في هذا السياق، ترى وفاء الكيلاني «أنّه يمكننا التطرق إلى أي موضوع بعيداً عن العشوائية. لا يمكنني أن أستضيف أحداً يشتم رئيس دولة مباشرةً على الهواء»، تؤكد مقدمة برنامج «بدون رقابة» على شاشة «المؤسسة اللبنانية للإرسال»، «لكن يمكنني أن أوجه النقد بتهذيب، من دون إسفاف».
من جهتها، تعتبر سلام خضر أنّ ميثاق شرف المهنة هو السقف. «بالنسبة لنا في «قناة الجزيرة»، الخط الأحمر الذي لا نسمح لأنفسنا بتجاوزه على الإطلاق هو التحريض الطائفي أو المذهبي أو العنصري»، تقول مراسلة القناة القطريّة في لبنان. «لكنّ المشكلة الأساسيّة تكمن في تحريض رجال السياسة على وسائل الإعلام في لبنان كأنهم تبنوا قاعدة: من ليس معنا فهو ضدنا».
في المقابل تؤمن بولا يعقوبيان «بضرورة الحفاظ على شعرة معاوية». «في بداياتي»، تقول مقدمة برنامج inter-views على شاشة «أخبار المستقبل»، «كنت أطرح أسئلة قاسية لدرجة أنّ بعض الضيوف امتنعوا عن الظهور في برنامجي. من الأفضل ألا يطلق الصحافي العنان لنفسه، وأن يجتهد على حدود الخط المسموح فيه الاجتهاد».
لكنّ القضية أبعد من قضية رقابة ذاتية، إنّها في «الأساس صعوبة الحصول على المعلومات»، وفق جهاد بزي. يذكر الصحافي في جريدة «السفير» بصعوبة أخذ أي موعد من أي موظف إداري من دون طلب إذن الوزير مثلاً، مشيراً إلى حدود ممارسة المهنة في لبنان رغم أنّ «الصحافيين يدّعون أدواراً كبيرة، ويلعبون دور البطولة، فيصبح أداؤهم مضحكاً».
صعوبة الحصول على المعلومة في بلد كل تفصيل فيه سري، قد يفرض على الصحافيين إضافةً إلى «خصلة» الرقابة الذاتية «خصلة» الكسل، فيصبح السؤال: هل الامتناع عن معالجة قضية ما نقص في الجرأة أم تعامل ذكي مع الواقع؟ وفي أي خانة تصنّف ضغوط المؤسسات الإعلامية على العاملين فيها لتطويعهم... تلك الممارسة التي قد تفرض على كثيرين نوعاً من اللجوء السياسي. هذه المعطيات كلها تواجه مهنة من الأفضل أن تتوقف عن تنصيب نفسها سلطةً رابعة.