جان عزيزحقاً مهيبة صورة المرشحين الستين تقريباً، حول ميشال عون. وحقاً إنها غير مسبوقة في التاريخين السياسي والانتخابي في لبنان، وخصوصاً في الوسط المسيحي منه. ذلك أنه منذ بدايات الدولة سنة 1920، وبعدها «الجمهورية» سنة 1943، كان الانتظام السياسي متفكّكاً، حتى توزّع بين الكتلتين الدستورية والوطنية. وهما الكتلتان اللتان تمددتا لاحقاً في الزمن، مع الشهابية والشمعونية، و«النهج» و«الحلف». غير أن أيّاً منهما لم يعرف في ذروته صورة هذا التحالف العريض حول شخص واحد.
أما لجهة قراءة تاريخية الأحزاب، فتبدو المقارنة أكثر دلالة وتعبيراً. ففي التاريخ الحزبي المعاصر للمسيحيين، ثمّة نموذجان حزبيان اثنان طبعاً. الأول لحزب الكتائب مع بيار الجميّل، والثاني لحزب الوطنيين الأحرار مع كميل شمعون. والنموذجان مثّلاً فعلاً تطبيقاً دقيقاً لنظرية موريس دوفرجيه عن الأحزاب السياسية. الأول، كان نموذج «الحزب المباشر»، حيث القاعدة تنظيم حزبي صارم والتزام هيكلي دقيق وانضباط تراتبي، وبالتالي الانتخابي. أما مع كميل شمعون، فكان نموذج «الحزب غير المباشر»: تنظيم أقل حديدية، تراتبيات أقل جموداً، وتفاعل سياسي عام أكثر مرونة... أقلّه حتى ما قبل اندلاع الحرب سنة 1975.
وكما تنص «نظرية الأحزاب» المذكورة، كان حزب كتائب الجميّل، المباشر، يأتي بوجوهه السياسية من قاعدته، حزبيين، مغمورين في البداية، يناضلون، فيترقّون سلّم العملين الحزبي والسياسي، ليصيروا نواباً ووزراء. هكذا كانت وجوه لافتة، جاءت من «العدم الحزبي». من جوزف شادر إلى جورج عقل، ومن عبدو صعب إلى جورج سعادة، ومن لويس بو شرف إلى إدمون رزق، وكل «رفاقهم».
أما في المقابل، فكان حزب الشمعونيين، غير المباشر، يبحث عن «ممثّليه» في البيئة السياسية القائمة أصلاً. فمن آل الخليل في صور، يختار شمعون كاظم بيك حليفاً ونائباً. ومن آل عمار في الضاحية يصير محمود بيك شمعونياً، ومن آل سالم بين صور وجزين، يأتي الراحل نديم سالم إلى الحزب، ومثله حبيب بيك مطران في بعلبك ونصري المعلوف وميشال ساسين في بيروت، وكل «الشمعونيين» الآخرين. مرة يتيمة، جاء كميل شمعون باسم غير معروف، أنطوان سعادة في كسروان، في انتخابات 1968 الشهيرة. ولا تزال النوادر والطُرَف تروى عن تلك السابقة الشمعونية، وصولاً إلى سؤال سعادة لرشيد كرامي: إلى أين المصير؟
المهم أنه في النموذجين، ومع الحزبين والزعيمين التاريخيين، لم تتخطّ كتلة أيّ منهما مرة الدزينة الواحدة من النواب، علماً بأنهما غالباً ما كانا يخوضان الانتخابات بخطاب سياسي يماشي الوجدان المسيحي السائد والمألوف. فلم يطرحا عليه أيّ تحدٍ فكري جديد، ولا أيّ خيار سياسي مفصلي. لا بل كان أقصى مضامين البرامج مجرد أسئلة من نوع: «أي لبنان نريد؟»، أو: «إذا كان لبنان في خطر، فبمَن تفكّر؟»... ودوماً ظلّت الأسئلة من دون إجابات. تماماً مثل كل المحاولات الحزبية المسيحية الأخرى، التي ظلّت ـــــ رغم أهميتها والدور الذي أدّته ـــــ من نوع «حزب الكادرات» أو التكتلات الانتخابية المحكومة بسياق محدد.
مقابل كل هذا التاريخ الحديث والمعاصر، تبرز ظاهرة ميشال عون غير المسبوقة: تنظيم حزبي حديث جداً، هيكلية عملانية هجينة، بين «المباشر» و«غير المباشر»، وصولاً إلى بعض الفوضى المنظّمة، خطاب سياسي مفصلي للوجدان المسيحي السائد، أكان في الداخل أم في الخارج. ومع ذلك تتبلور صورة المرشحين الستين، وصورة الكتلة النيابية الأكبر في التاريخ المسيحي.
هل هي ظاهرة الثقة بشخص، في مقابل انعدام الثقة بكل منافسيه؟ هل هي ظاهرة بقايا «لبنان الإمبريالي المسيحي»، مع صورة آخر قائد لجيش لبنان الأمّة ـــــ الدولة الساقطة بعد الطائف؟ هل هي ظاهرة الغالبية المسيحية السوسيو ـــــ جغرافية وثقافية، المتماهية مع عسكري من الطبقة الوسطى من جبل لبنان؟ أم هي ظاهرة اقتناع مسيحي بمشروع سياسي مُتّحَدٍ جديد، يقوم على عنصرين: تفاهم الداخل، والانتماء الفعلي إلى المحيط وقضاياه؟
وحده الاحتمال الأخير يستحق العمل. وإن كانت كل الاحتمالات الأخرى ممكنة، ما يؤكد أن ظاهرة ميشال عون تستحق أكثر من دراسة.