بغداد ـ الأخباربعد خمس سنوات على الغزو، ما الذي يبرّر التعتيم الإعلامي على كوارث العراق، وخصوصاً أنّه في السياسة الداخليّة والتطوّرات الميدانيّة لا شيء يجري على ما يُرام؟ وما الذي تحقّق بعد 5 سنوات من القتل المنظَّم أو الميليشيوي؟ وما الذي ينتظر عراقاً بات أقرب إلى «الدولة المؤقّتة»؟
التحسّن الأمني تعزوه حكومة نوري المالكي وواشنطن إلى عوامل عديدة، أبرزها: تجميد الاحتراب الطائفي، والضربات التي تلقّاها تنظيم «القاعدة» وتجميد نشاطات «جيش المهدي»، ونجاح الضغط على سوريا لإجبارها على إقفال حدودها أمام مرور المقاتلين الأجانب إلى بلاد الرافدين، الذي أدّى إلى اقتناع أطياف واسعة من العراقيّين بالدخول في «العمليّة السياسيّة».
لكنّ جميع هذه العوامل تبدو غير دقيقة، لأنها تغفل المؤثّرات الحقيقيّة التي أدّت فعلاً إلى انخفاض طفيف في موجة العنف. فمن جهة، هناك سياسة إفراغ المدن من سكّانها لتصبح آمنة، (وهو ما يفسّر وجود نحو 4 ملايين مهاجر من أصل 28 مليون نسمة)، ثمّ القضاء على فكرة المدن المختلَطة طائفيّاً، مع تشييد الجدران العازلة بين الشيعة والسنّة.
وحتّى لو كان هناك فعلاً انخفاض في العنف (الإنجاز بالنسبة للأميركيّين والحكومة العراقيّة أن يصل المعدّل اليومي للقتلى العراقيّين إلى 30)، فإنّ كميّة الملفّات العالقة ودرجة تعقيدها تجعلان من التقويم العام للوضع العراقي يداني علامة الصفر على عشرة.
معيار التحسّن في الأمن والسياسة نسبي جدّاً. بالنسبة للمواطنين، لا شيء يسير قدماً: الكهرباء باتت محصورة بنخبة تعيش في الأحياء «الراقية» من العاصمة. نسبة الفقر بلغت أرقاماً خياليّة في دولة تحتل ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم. الشعب يعيش على الحبوب المهدّئة. الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة تحت الصفر. غلاء واحتكارات وفساد. الثقافة في البلد أصبحت عملة نادرة. الميليشيات المنتمية إلى جميع الطوائف تفرض تقسيماً حقيقياً مع ما يستتبع ذلك من فرض سلطات أمر واقع.
حتّى على مستوى السياسة لم يحصل أيّ تقدّم جدّي، حتّى في الملفّات التي يُقال إنها أُنجزت، والمقصود بها قوانين تعديل اجتثاث البعث والعفو العام والمحافظات والموازنة والأقاليم، كلّ شيء يسير مؤقّتاً، بالضبط مثلما تمّ الاتفاق على وضع علم جديد للبلد لمدّة عام واحد.
وتبقى أمام الحكومة الحالية أزمتان، قد تكونان الأكثر حساسية، هما قانون النفط والغاز والتعديلات الدستورية، إضافة إلى قضية كركوك التي ترتبط بالتعديلات الدستورية. وبحسب معلومات «الأخبار»، هناك احتمال قوي بإعطاء إياد علاوي دوراً مهماً في التشكيلة السياسية التي ستدير الأمور في المرحلة المقبلة، باعتباره من عرّابي قانون النفط والغاز، ومن المتبنّين لمبدأ «الشراكة» بين المناطق في استثمار الحقول النفطيّة غير المكتشفة.
وأكثر ما يعبّر عن هشاشة الصيغة الحاكمة في بغداد بين «التحالف الكردستاني» ومن بقي في «الائتلاف العراقي الموحّد» (بعدما انسحب منه نحو نصف عدد نوّابه)، هو الأزمة المستفحلة بين الأكراد والعرب حول أحقّية حكومة الإقليم الكردي في إبرام عقود نفطيّة مع شركات أجنبيّة بمعزل عن قانون النفط الذي لم يُقَرّ بعد، خلاف يلوّح زعماء الأكراد بالانسحاب من التحالف الحاكم على خلفيّته.
وفي الجانب السياسي الداخلي، يبرز الفشل الدائم في تشكيل حكومة جديدة، إذ انفرط عقد حكومة المالكي منذ الربيع الماضي، إثر انسحاب نحو نصف أعضائها (وزراء جبهة التوافق والتيار الصدري وكتلة علاوي). وكان هناك مقترح بتكليف الأمم المتحدة، بالتعاون مع السفارة الأميركية، اختيار حكومة على أساس تكنوقراط، وطرحها على مجلس النوّاب، إلاّ أنّ هذا الطرح سرعان ما أُحبِط لأنّه يتناقض مع المصالح الطائفية للكتل البرلمانية، ولأنّ واشنطن تفضّل حاليّاً وجود حكومة تمثّل جميع الطوائف وإن كان صوريّاً، لتغطية تمرير المشاريع التي تسعى إلى إنجازها.
وتبقى قضية المادّة 140 من الدستور، التي كانت تنصّ على تنظيم استفتاء شعبي لأهل كركوك لتحديد مصيرها: إمّا الانضمام إلى إقليم كردستان، أو البقاء إقليماً تابعاً للسلطة المركزيّة. والمادّة انتهى مفعولها في آخر أيام العام الماضي، وإلى اليوم لم يوافق البرلمان على تمديدها.
التمديد تمّ باقتراح من بعثة الأمم المتحدة. والمفارقة أنّ الجهة الوحيدة التي وافقت على التمديد هي برلمان كردستان، الذي كان قد أفتى سابقاً بأنّ مهمّة بعثة الأمم المتحدة استشارية فقط. وحاليّاً لا تحظى المادّة 140 بالتأييد سوى من التحالف الكردستاني، وبعض برلمانيّي «القائمة العراقية»، إضافة إلى «المجلس الأعلى الإسلامي»، الذي يتبنّى فكرة فدرالية في الوسط والجنوب، وإعادة ترسيم الحدود بين محافظتي الأنبار وكربلاء، وضمّ منطقة النخيب المحاذية للسعودية إلى كربلاء، باعتبارها منفذاً للحجّ.
ولا تزال أوضاع المدينة قنبلة موقوتة قد تنفجر في أيّ وقت، إذ تتداخل فيها عوامل الفتنة كلها: اختلاطها المذهبي والعرقي (عرباً وأكراداً وتركماناً وأشوريين). الرفض المطلَق للتعايش بين أكرادها من جهة، وعربها وتركمانها في المعسكر الآخر. الطرف الأوّل مصرّ على الانضمام إلى كردستان، والعرب لا يرضون إلا بالبقاء في الجزء الأوسط من البلاد. أمّا التركمان فلا يتمنّون إلا التحوّل إلى إقليم قائم بذاته.
إنّ الأميركيّين، الذين اطمأنّوا إلى تحالف الأكراد الاستراتيجي معهم، لم يرغبوا حتى عند تخطيطهم لاحتلال العراق بوضع كركوك تحت تصرف القيادات الكردية، التي قد تتقاتل في ما بينها على النفوذ في المدينة، إضافة إلى أنّهم لا يريدون خسارة الأطراف العراقية الأخرى المعارضة لضمّها إلى كردستان، كما لا يريدون التفريط بتحالفاتهم الإقليمية، مع تركيا خصوصاً.
كوندوليزا رايس قامت في الفترة الأخيرة بزيارتين إلى العراق، حيث نالت كركوك الأولويّة. بعد اجتماعات طويلة سعت في خلالها إلى جمع الممثّلين عن العرب والأكراد والتركمان، حاولت تثبيت اتفاق في ما بينهم، يضمن عدم انفجار الوضع إلى حين إيجاد اتفاق نهائي للمدينة. الاتفاق ينصّ على إعطاء نسبة 32 في المئة من الوظائف الحكوميّة لكل من الأطراف الكبيرة في كركوك، والباقي للكلدو أشوريين.