سعد هادي
برحيل فؤاد التكرلي (1927)، أمس، في عمان، تكون الثقافة العراقية قد فقدت آخر رموز جيل الخمسينيات، جيل الريادة والحداثة الحقيقية في القصّة العراقيّة.
هكذا، رحل التكرلي عن 81 عاماً بعد معاناة طويلة مع سرطان البنكرياس، فكان خاتمة جيل سعى أبناؤه ـــــ على اختلاف ميولهم الفكرية والسياسية ـــــ إلى أن يؤسّسوا لشكل جديد من النثر العراقي، يوازي ما صنعه مجايلوهم في الرسم والنحت والشعر.
ينتمي التكرلي إلى عائلة ذات حظوة دينية ومكانة اجتماعيّة متميزة، وإذا كانت هذه العائلة بتفرّعاتها المختلفة قد تمتّعت بمباهج السلطة في بداية الحكم الملكي في العراق، فإنّها سرعان ما تخلّت عن الدور الذي أنيط بها موقتاً لجيل جديد من السياسيّين نشأوا تحت الراية العثمانية وتعلّموا صرامة عسكرها، لكنّهم تعلموا أيضاً من المحتلّ البريطاني بعض عناصر الحداثة الأوروبية. وقد أدى ذلك إلى فترة انفراج نسبي اجتماعيّاً أسهمت في إظهار ذلك الجيل الذي لا يتكرّر من المبدعين أو ساعدته على إنضاج تجاربه.
درس التكرلي القانون في أواخر الأربعينيات وعمل في سلك القضاء، إلا أنّه ظلّ طوال حياته يرى أن الكتابة عمله الأساسي. ربما كانّ مقلّاً فلم يصدر سوى أربع روايات هي: «الرجع البعيد» (1980)، خاتم الرمل (1995)، المسرّات والأوجاع (1998) واللاسؤال واللاجواب (2007)، إضافةً إلى عدد آخر من المجموعات القصصية.
إلا أنّ ما قدّمه من إنجاز نثري يشير بوضوح إلى غنى تجربته الروحية وفرادة النموذج القصصي الذي قدّمه. إذ إنّه كان يجمع بين العامية والفصحى ويستفيد من الأشكال السردية المعاصرة ويبتعد عن الإطناب والفجاجة، محاولاً التعبير عن هموم الإنسان في مجتمع مديني يتأسّس ومظاهر حياة يعاد تشكيلها. مجتمع يتداعى بين التناقضات، يعاني الفرد فيه من ازدواجيات متعددة، بينما تحاول السلطات المتعاقبة فيه أن تفرض أحادية في الفكر والسياسة.
أكثر من ذلك، لم تذهب السنوات التي قضاها التكرلي قاضياً سدى، بل سمحت له بأن يتنقّل بين أمكنة شتى ويقترب من تجارب لا حصر لها ومشكلات إنسانيّة مخفيّة في بيئة متزمتة. هكذا، وجد في عمله قاضياً أركيولوجيا الطبقات تكشف خفاياها له، وفي ضوء ذلك، كان لافتاً أنّ في معظم ما كتبه التكرلي، طرح قضايا خلافية تحتاج إلى حكم قانوني: زنى بالمحارم، جرائم قتل غامضة، جرائم شرف... تلك أطياف الموظف الأبدي الذي يطبّق العدالة من منصة القضاء، ثم يعيد إنتاج خلاصاتها على الورق.
يلفتنا أيضاً لدى التكرلي ذلك الإخلاص اللامتناهي للنثر أداةً للتعبير، فلعلّه من بين قلّة من الكتّاب العراقيين ممن لم تكن لهم تجارب شعرية أولى. لقد سحرته أساليب الأداء القصصي وظل مخلصاً لها. إلا أنّ شعريةً ما نتلمسّها في نصوصه تتولّد من تأملاته ومن جماليات نثره الصافي الذي يميل إلى البساطة والوضوح وإلى التمركز المنطقي حول ثيمة السرد بلا زوائد وبلا استطرادات.
التكرلي الذي عاش سنوات حياته الأولى في حي «باب الشيخ» العريق، حيث مرقد المتصوف عبد القادر الكيلاني، ظلّ أشبه بالأسطة البغدادي المتمكّن من أسرار صنعته، رغم أنّه كان أقرب من ناحية التصرف إلى ابن الذوات الدمث، الواثق من مكانته في مواجهة تحوّلات الزمان. وهو ما كان ينأى به دائماً عن خوض معارك ثقافية. بل إن موقفه السياسي ظلّ غامضاً على الدوام، فبينما عدّه كثيرون يسارياً كما هي الحال بالنسبة إلى معظم أبناء جيله، رآه آخرون مناوئاً للشيوعيين وخصوصاً بعد التحقيق معهم ـــــ بحكم موقعه الرسمي كقاض ـــــ بعد انقلاب 8 شباط الذي نفّذه البعثيون. والتكرلي أيضاً أدركته حرفة المنفى منذ منتصف التسعينيات فعاش متنقلاً بين تونس ودمشق وعمان قبل أن يرحل أمس ليُنقل جثمانه إلى بغداد حيث سيوارى في الثرى.