أميّة سماحة
«كنّا بغنىً عن الحرب ونحن نُطلق جريدة جديدة»...
بعد رحيلك، أتاحت لي المدينة أن أرى أشياء كثيرة، تتجاوز أحياناً حدود المكان. غالباً ما روادني شعور بأنّ قوةً ما تحملني. أمضيت الجزء الأكبر من العام أتذكّرك، وفي بعض اللحظات أحاول أن أنساك. أردت أن أتبيّن ما بوسعي أن أعطيه بعدما لم تعد أنت ملهمي المباشر.
منذ أشهر، أطفأت جريدتك شمعتها الأولى من دونك. لحظة العيد والبهجة كادت تبلغ تمامها. لم أكن أتخيّل، والحداد يلفّني، أنني قادرة على المشاركة في تلك السعادة. لقد أطلقتَ شيئاً يتواصل بشكل أو بآخر بعد موتك. ستبقى أبداً شخصاً يضجّ بالحياة.
نظرتُ يومها إلى المحتفلين، وقلت لنفسي: كلّ هؤلاء، جوزف هو الذي جمعهم. وشعرتُ بفخر كبير. كانوا أشخاصاً مجهولين بالنسبة إليّ، فإذا بهم يكتسبون شيئاً فشيئاً مكانةً كبيرةً في القلب. رغم مشاعر العاطفة والاحترام التي كانت تتجاذبنا، لم يقم أيٌّ منهم بخطوة نحوي، ولا بذلت أنا ذلك الجهد. كانوا هنا ببساطة، سبب وجودهم هو جوزف، وقد بدا لي ذلك كافياً. مثلي بَكَوه، كلٌّ على طريقته. لقد أدركوا حقيقة مَن يكون. لا شك إذاً في أنّهم كانوا بدورهم يبحثون عن شيء ماغالباً ما طرح عليّ السؤال إن كنت أنا أيضاً صحافية. كنت أجيب مازحةً: «لقد أفلتُّ بأعجوبة من هذا القدر». أخذت عن جوزف قيمه واحترامه للآخرين. فتصوروا لو كان عليّ فوق كلّ ذلك أن أتّبع مبادئه بحذافيرها، وأن أقتفيَ أثر صاحب تلك المبادئ.
أحد أصدقاء جوزف، قال مرةً إنّ الحنين ليس إلا تعبيراً عن ندمنا، لأنّنا لم نحبّ كما كنّا نشتهي. وأنا أقع أحياناً في فخّ الحنين، لكنّ الذكرى التي بقيت لي منك متأججة ما يكفي كي تنتشلني بسرعة من الحزن.
الجريدة وحدها لا يمكنها اختصارك. لكنّها الوسيلة التي اخترتَ، والوسيط الذي كنتَ تحسن التعبير من خلاله بمهارتك المعهودة. كنتَ تجمع الناس من حولك، تضيء الطريق بإضافاتك، تساجل بحسّ نقدي مرهف، وتترك بعدها للآخرين أن يكوّنوا فكرتهم ويعبّروا عن ذواتهم. وكنتَ مُحترَماً من ألدّ خصومك.
الصحافة بعدك صارت شيئاً آخر. لقد باتت، أكثر مما مضى، مهنةً مقدّسة، حتى لو لم يتقيّد الجميع، على الدوام، بالأخلاقيات النابعة من صميمها. والصحافي بعدك لم يعد بوسعه أن يكون كما في السابق... عليه أن يتساءل عن كيفية تقديم الخبر، وأن يبذل جهداً لنقل الحدث إلى الجمهور بطريقة مبتكرة. أما التحليل السياسي فقد قطع معك أشواطاً كبيرة. ربما كان في هذا الإطلاق شيء من المثالية، أعرف ذلك... لكنّها رؤيتي إلى الواقع، حلمي، وإيماني الذي وجدته بعدك في عدد من الأشخاص.
لدى ولادة «الأخبار»، كنت تتكلّم عن «حدث عاطفي في منتهى الغنى». أن لا يهب المرء نفسه لمهنة فقط، بل لعائلة حقيقية. أعطيتَ من نفسك لهذا الحلم أكثر مما ينبغي ربما، حتى بتَّ تشعر بحاجة ملحّة إلى الراحة. وها هي عائلتك اليوم تتحلّق حولك بفرحة ليس لها مثيل. من خلالها، بات من الممكن أن تتجسّد تلك العلاقة العضوية مع الناس.
لو أنّ سمير كان هنا، لأحبّ جريدتك ربّما... أو ربّما كرهها. لكن ما كنَت تتمناه من صميم قلبك، هو أن يحترمها على رغم ما بينكما من اختلاف. وهذا يشي بمسألتين أساسيّتين، الأولى هي انخراطك العاطفي في ما آمنتَ به وناضلتَ من أجله... أما الثانية، فمراعاتك الدائمة لحضور الآخر المختلف. لذا، كان يعزّ عليك كثيراً أن تكون جريدتك فضاءً جميلاً، جديراً بالاحترام، قادراً على جمع القراء وتوحيدهم على مبادئ انسانية واجتماعية ووطنية مشتركة.
في كل منبر صحافي، متجاوزاً الحدود السياسية التي يفترضها الالتزام، أراك حارس الهيكل، جودي* ــــ بتعبير سمير قصير ــــ أيّها الابن الرهيب لعلم النفس السياسي.

* Jedi جماعة لامتناهية القدم، تتميّز بالسيطرة على القوّة، وتسهر على السلام والعدالة (سلسلة «حرب النجوم»)