جوزف سماحة
بدأت الدورة السنوية للأمم المتحدة. الطقوس هي نفسها. كلمات تُلقى. اجتماعات تُعقد. مواضيع تُبحث. مآدب تنظّم. كواليس. أروقة. صفقات. شكاوى...
الجديد هذه السنة، قياساً بسنوات سابقة، أن القضايا الخاصة بمنطقتنا هي الأكثر حضوراً. يمكن القول، مع بعض المبالغة، إنها دورة الجمعية العامة الخاصة بالشرق الأوسط: لبنان، فلسطين، العراق، السودان، إيران.
الجديد، أيضاً، أن النظام العربي الرسمي قرر تحدي الهيئة الدولية بأن يرمي إليها قضية التسوية في الشرق الأوسط طالباً منها وضع اليد عليها والالتزام (وإلزام الأطراف) بجدول زمني يحل السلام في نهاية 2007. لقد اتخذ هذا القرار العربي على مستوى عالٍ واستناداً إلى ملاحظة مؤداها أن عملية التسوية في حالة موت سريري، وأن الآليات التي اعتُمدت لإنجاحها لم تسفر عن شيء.
لم ينتبه أصحاب القرار إلى أنهم لا يتحدون الهيئة الدولية وإنما يتحدون أنفسهم. لقد قبلوا خوض الامتحان واكتشاف الوزن المقام لهم في العالم ومؤسساته. واللافت أنهم فعلوا ذلك في أثناء اكتشاف محدودية دورهم أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان (الاجتماع الأول في القاهرة) وأثناء نجاح دول القرار في تعطيل مجلس الأمن عن القيام بأبسط واجباته: الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار.
ربما جاز لنا الاعتقاد بأن انضمام دول عربية مركزية إلى تغطية الحملة الإسرائيلية على لبنان دفع بها إلى تغطية سلوكها بالهرب إلى الأمام، وزيّن لها أن هناك من قد يدفع لها ثمناً مقابل خطوتها الالتحاقية.
لم تجر الرياح كما تشتهي سفن العدوان والقائمين به والمتسترين عليه والمتواطئين معه. وشاعت أجواء، بعد ذلك، تفيد أن المنطقة كلها على مفترق طرق وأن الحل الشامل بات بديلاً وحيداً من الحريق الشامل. وساهم في تعميم هذا المناخ أن إيهود أولمرت أعلن طي خطة الانطواء بما أوحى للبعض أنه قد يعيد اكتشاف «الشريك الفلسطيني».
ندع جانباً الغموض الذي أحاط بمضمون التوجّه العربي إلى مجلس الأمن. ونضع جانباً، أيضاً، أن الخطوات العربية الخجولة قوبلت باستهتار مُبالغ فيه من دول القرار. ولم يتردد كوفي أنان نفسه في المشاركة بهذا التجاهل: المبادرة العربية؟ أي مبادرة؟
اتخذ الاستهتار أشكالاً متنوعة. منها، مثلاً، الإنكار الصريح لتلقي أي طلب عربي جدي. ومنها التلميح إلى ضرورة إحياء «اللجنة الرباعية» واستخدام ذلك حصراً في معرض فرض الشروط على الفلسطينيين. ومنها، أيضاً، التلميح إلى اجتماعات ثنائية قد يعقدها محمود عباس في نيويورك. ومنها إخراج «خريطة الطريق» من البراد. ومنها إعلان مواقف إسرائيلية وأميركية واضحة بأن الوقت ليس مناسباً للإقدام على حلول كبرى. إلخ...
في هذا الوقت كانت القوات الدولية تتدفق على لبنان وتتعرض لمحاولات لحرفها عن أداء مهمتها المحددة بالقرار 1701. وكان مجلس الأمن يصدر القرار 1706 الخاص بإرسال قوات دولية إلى السودان (الخرطوم ترفض). وكان الفلسطينيون يقتربون من تأليف حكومة وحدة وطنية لولا أن الضغط الأميركي منعهم من ذلك. وكان الأوروبيون يشعرون بأن مساهمتهم في حل مشاكل الإقليم قد تزداد مع تضخم وجودهم في لبنان.
وفي هذا الوقت أيضاً كانت تنقضي المدة المُعطاة إلى إيران لتقديم جوابها في ما يخص برنامجها النووي (وفق قرار لمجلس الأمن متخذ تحت الفصل السابع). وكانت طهران ترفض، وتناور، وتجيب طارحة أسئلة وواضعة شروطاً. وكان التصدع يظهر في جبهة الخمسة زائد واحد فتبرز فرنسا بين المبادرين إلى قدر من الليونة في وقت تنشر فيه وسائل إعلام أميركية خطط الهجوم العسكري المحتمل...
سيكون انعقاد هذه الدورة مناسبة لتجديد خجل الشعوب العربية من حكامها وأنظمتها. فمهما كان الرأي في إيران، ومحمود أحمدي نجاد، فسيظهر جلياً أنها دولة حاضرة وأن هناك من يحسب لها حساباً يضطره إلى مراعاتها أو يرغمه على مواجهتها. وفي المقابل سيبدو المندوبون العرب حاملين مبادرتهم وواقفين على قارعة الطريق ينتظرون من يلتفت إليهم ويتمنون ألا يلقوا صداً مهيناً أو شديد الإهانة.
الكلام عن «النظام العربي الرسمي»، في هذا المجال، كلام عمومي جداً. وإذا شئنا التحديد وجب علينا القول إن المسؤولية الرئيسية تقع على السلطتين المصرية والسعودية. فهاتان الدولتان تشكلان، حالياً، مركز الثقل في الحالة العربية. وهما معنيتان مباشرة أو مداورة بالقضايا الخاصة بالمنطقة والجاري التداول في شأنها في نيويورك. وهما صديقتان، أو هكذا تظنان، للدولة الأقوى في العالم. وهما الداعيتان إلى التسوية والمصرّتان على أنها في أزمة وعلى أهمية تحفيز «المجتمع الدولي» لوضع يده عليها. وهما تملكان العناصر الضاغطة اللازمة التي يجب استخدامها.
البرنامج الإيراني هو، بمعنى ما، قضية مصرية وسعودية، وكذلك العراق، وفلسطين، ولبنان. ويمكن أن نضيف إلى ذلك كل ما هو قديم أو مستجدّ من «حرب كونية على الإرهاب» أو «صدام حضارات»، أو «مواجهة مع الإسلام الفاشي»...
يمكن القول، بناءً على ما تقدم، إن أي فشل عربي في نيويورك هو فشل مصري ــ سعودي بالدرجة الأولى. وعليه يكون على القاهرة والرياض اقتراح بدائل لوصول «الواقعية الالتحاقية» إلى محطة بائسة. وما لم تكن البدائل مقنعة فلا جدوى من التعويل على كبح جماح «التطرف»، وعلى منع الشعوب العربية من أن تحتضن كل من يدلها على طريق خلاص مهما كان متهوّراً.
يستحسن بناء الحسابات العربية حيال الولايات المتحدة على قاعدة أن مواقعها في المنطقة هشّة جداً، وأن قابلية إخراجها منها واردة، وأن سياسة الإدارة معزولة داخلياً، وأن أي نكسة لها في الشرق الأوسط ستكون ذات أبعاد كونية هامة.