ح. خضرة
بالكاد تنفّس المواطنون الصعداء بعد التأكد من وجود نيات جديّة لمعالجة تراكم النفايات في الشوارع، حتى اكتشفوا أن المشكلة سوف تنتقل إلى منطقة الكرنتينا، إذ بات من شبه المؤكد أن تُقام عليها محرقة لاستيعاب نحو 1000 طن من النفايات المنزلية يومياً، والبعض يقول محرقتين بقدرة استيعاب 2000 طن.

بسهولة يكتشف المتتبع لمسار معالجة النفايات منذ التسعينيات أن سياسيي البلد كانوا يتعمدون تكبير الحجر على المواطن. دخل كل منهم في اللعبة المناطقية والطائفية وحتى الحزبية ليرفضوا استقبال نفايات المناطق المجاورة. نجحوا في الخطاب التحريضي ضد الآخر، لدرجة أنه لم يعد يهم سوى أن تكون «منطقتي» آمنة ومحصّنة ومكتفية، وتناسوا أن لبنان هو وحدة جغرافية متكاملة. دفع هذا النمط من التفكير والممارسة إلى نشوء حلول ومعالجات بتكاليف مالية وبيئية وسلوكية متطرفة في أغلب الأحيان، والشواهد على ذلك لا تعد ولا تحصى ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الطريقة التي عولجت فيها نفايات مكب النورماندي التي رُحّلت إلى جوانب طرقات الإقليم في نهايتها وإحدى الكسارات القديمة! والطريقة التي عولج فيها ملف مطمر الناعمة الذي فُتح وأغلق، ثم أعيد فتحه وإغلاقه لأسباب أغلبها ذات طابع سياسي، ليُفتح بدلاً منه مطمران خطيران على الشاطئ لأهداف استثمارية أكثر منها بيئية! ثم أيضاً هناك الطريقة التي تمّ فيها التعامل مع «محرقة» ضهور الشوير وغيرها...إلخ. لكنّ الأهم من هذا كلّه هو الطريقة التي أوصلت اللبنانيين إلى الحد الذي يقبلون فيه إقامة محرقة وإلا غرقوا في «زبالتهم». ويبدو أن بعضاً من الطاقم السياسي لمس حجم الربح الذي يمكن أن يتحقق من المحارق فركب الموجة أو أنه يستعدّ لإقامة محارق مناطقية بدواعٍ مختلفة.
تقنيات مختلفة و»رمادية»
الخبراء البيئيون يشيرون إلى أن تقنيات الحرق ليست واحدة، منها يعتمد على حرق المواد المطلوب التخلص منها مباشرة، ومنها ما يستخدم تقنيات يقال عند الترويج لها «إنها صديقة للبيئة»! كما يُشاع عن المحرقة التي تشاد حالياً في منطقة النبطية أنها تعتمد تقنية «التغويز». لكن هذه التقنية، وبالطريقة التي يتم فيها تركيب المعمل وإدارة العمل عليها سوف لن تكون أكثر من محرقة.

المحارق على أنواعها لا تستغني عن الفرز
ولا عن الطمر


في جميع الأحوال الحرق يحتاج إلى فيول أو إلى طاقة مشغِّلة، وهذه هي أول مشكلة في لبنان لأننا نستورد هذه المحارق - أياً كان نوعها - بالعملة الصعبة، مع العلم أن نوعية النفايات في لبنان رطبة، وتجفيفها يحتاج إلى مزيد من المحروقات!
أيضاً هناك البقايا التي سوف تنتج، وهذه مشكلة بحدّ ذاتها، لأن تقنيات مثل التغويز أو Gasification تحتاج إلى فيول إضافي لحرقها مجدداً في غرف خاصة Back Chamber للتأكد من أن كميتها قد تقلصت إلى الحدّ الأقصى، وهكذا فإنّ مثل هذه التقنيات - على سبيل المثال - هي صفقات رابحة لكارتلات النفط والسياسة ومن لفّ حولهم.
إشارة أيضاً في هذا المجال إلى أن استخدام الحرق بواسطة «التغويز» أو غيره من التقنيات، سوف ينتج رماداً في النهاية: هذا الأمر هو قانون فيزيائي منذ الأزل، لافوازيه Lavoisier كان أول من تحدث عنه: « لا يتم فقد شيء، لا يتم خلق شيء، كل شيء يتحول: “rien ne se perd, rien ne se crée tout se transforme” ولهذا سوف نجد أنفسنا وقد وقعنا في مشكلة تحتاج إلى «طمر» هي مشكلة التخلص من الرماد.
المشكلة الأخرى التي ستقع فيها المحارق – لا سيما منها تلك التي تستخدم تقنية التغويز هي الفترات التي ينبغي فيها إيقاف عملية الحرق من أجل أعمال الصيانة الدورية الدائمة – استناداً إلى الدراسات الموثقة في هذا المجال، وهو ما يعيدنا إلى السؤال الأساسي: لماذا قبلنا الدخول في هذا النفق إلى ما لا نهاية؟
كهرباء لمن؟
سوف تخلص عملية الحرق إلى إنتاج الكهرباء، هذا أمر مؤكد، بعض المعطيات الفنية حول الحرق تشير إلى أن الكهرباء المنتجة سوف تكفي لإعادة تشغيل المحرقة نفسها، أو في أحسن الأحوال سوف تكون كلفة إنتاج الكيلو واط مرتفعة إلى الدرجة التي لن يرغب أحد في شرائها، إلا إذا أجبرت شركة كهرباء لبنان على تسييلها على شبكتها إرضاءً للنافذين من أصحاب المحارق. وفي النهاية سوف يجد المواطن نفسه من جديد أمام أزمة استخدام تقنيات أحدث - قد لا تكون كلها معتمدة في دول العالم الصناعي - وبكلفة أعلى مالياً وبيئياً واجتماعياً.
ويكفي في هذا المجال التذكير بأن استشاري Ramboll الذي أعدّ دراسة المحارق لصالح مجلس الإنماء والإعمار يقول: «من الأفضل بناء محرقة واحدة في الوقت الحالي خاصة وأنه ليس لدى الدولة اللبنانية أية خبرات في مجال المحارق».
ألا يدعونا هذا كلّه إلى التفكير جدياً باعتماد استراتيجيات ناجعة ومستدامة لمشاكل لا تحتاج إلى تقنيات كبيرة ومعقدة ومسيسة وعلى قياس الطوائف أو الزعامات، استراتيجية تعتمد ببساطة على التقليل من حجم النفايات والفرز والترشيد؟




استراتيجة للنقاش

لأول مرة على المستوى الرسمي، تنظّم الأمم المتحدة للبيئة بالتعاون مع الأمانة العامة لمجلس النواب ومشروع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في المجلس وبالشراكة مع وزارة البيئة، ورشة عمل في مجلس النواب منتصف الأسبوع القادم، تهدف إلى وضع استراتيجية وطنية لإدارة النفايات الصلبة التي ترسم رؤية الحكومة وتوجهاتها في هذا الإطار، ومناقشة مشروع القانون الذي أحالته الحكومة (عام 2012) على مجلس النواب، لإدخال التعديلات الضرورية عليه، لتخرج البلاد من خطط الطوارئ المدمرة إلى أطر أكثر استدامة.