انتهت الحفلة. وبدأ صداع ما بعدها. مثل حالة hangover جماعية تعقب الإسراف بالسكر حتى الثمالة والتقيؤ.فجأة، تذكّر الجميع أن موازنة الدولة فيها عجز كبير، وأن الدَّين العام يفوق القدرة على التحمّل، وأن لا مفر من التحرّك الآن وفوراً لضبطه.
كان مذهلاً، في هذا الوقت بالذات، أن تتقدّم وزارة المال، عشية الانتخابات، بمشروع قانون لموازنة عام 2018، تصل قيمة العجز الفعلي فيه، بعد احتساب النفقات المخبأة، إلى أكثر من 6.5 مليارات دولار، وربما وصلت إلى 8 مليارات دولار، بحسب ما تردد في اجتماعات اللجنة، التي شكّلها مجلس الوزراء لدراسة هذا المشروع وخفض أرقامه. قبل ذلك، كان حاكم مصرف لبنان قد وجّه رسالة واضحة حول «وجوب خفض هذا العجز».
ما عنته الرسالة باختصار، وتولى صندوق النقد الدولي (في بيانه الأخير) توضيحه من دون أي مواربة، أننا لم نعد قادرين على تمويل هذا القدر من العجز، وفي الوقت نفسه الاستمرار في تمويل كلفة تثبيت سعر الليرة المتعاظمة، ولا سيما كلفة المحافظة على الودائع الكبيرة وجذب المزيد منها. تقول هذه الرسالة إن علينا أن نختار: إمّا المزيد من وصفات «التقشف» و«الحوافز» لتدفق رأس المال الخارجي، وإمّا الوقوع في المحظور.
تواجه الحكومة هذه الورطة، وهي لا تدري تماماً ماذا تفعل في مواجهتها. وهذا، حتماً، ليس إعفاءً لها من المسؤولية، بل تأكيد لمسؤوليتها في الوصول إلى هذا الدرك من الأزمات، الذي يصبح فيه «الوجع» مفروضاً، ومحسوساً به جداً على مستوى توزيع الدخل، إلى درجة التهديد بمضاعفات عنيفة، لا تعود تنفع معها المسكّنات، ولا حتى مضادات الالتهاب، ولا تكاد تنفع معها أيضاً عمليات الإنعاش الاصطناعية، كالتي يجري استجداؤها من مؤتمر بارس ــ 4 العتيد.
لا شك في أن مشروع موازنة عام 2018، كما هو مطروح، يضيف أسباباً جدّية لإثارة القلق من تنامي العجز الحكومي. فهو سيزيد 2.8 مليار دولار بالمقارنة مع العام الماضي. ستحتاج الخزينة العامة في هذا العام إلى تمويل نفقات بقيمة تتجاوز 18.5 مليار دولار، أي أكثر بـ3.2 مليارات دولار عن العام الماضي. في حين أن إيراداتها الضريبية وغير الضريبية، التي ستجبيها من المقيمين في لبنان، لن تزيد على 12 مليار دولار، أي أكثر بنحو 300 مليون دولار فقط لا غير ممّا جبته في العام الماضي. وبالتالي سيقفز الدين الحكومي من 79.5 مليار دولار في نهاية عام 2017 إلى أكثر من 86 مليار دولار في نهاية هذا العام، وسيساوي أكثر بمرّة ونصف مجمل الناتج المحلي السنوي. وستزداد كلفة خدمة الدين وحدها بقيمة تقارب مليار دولار (من 4.7 مليارات دولار إلى 5.6 مليارات دولار على الدين القائم في هذا العام فقط)، أي إن الفوائد التي ستسددها الحكومة على ديونها القائمة ستزيد على 10% من مجمل الناتج المحلي، وستنمو بنسبة 20%، في مقابل نمو اقتصادي حقيقي لن يتجاوز نسبة 2.2%، بحسب تقديرات المشروع غير المحافظة أبداً.
تعبّر هذه الأرقام عن حقائق لا يمكن إغفالها، أو لا يجوز وضعها جانباً في أي حديث يتناول الاقتصاد السياسي اللبناني ومآلاته، ولا سيما أن الحديث هنا يخصّ موازنة الدولة، وهو حديث سياسي بامتياز، يتعلّق بالعلاقة الوطيدة بين القسر، الذي تجسده السلطة، وتراكم رأس المال. فهذه العلاقة هي التي تحدد الفئات الاجتماعية التي سيكون عليها تحمّل الكلفة الباهظة، وهي تقوم على ميزان قوى اجتماعي يميل، بصورة حاسمة، إلى مصلحة رأس المال، أو «الطبقة الحاكمة» بمعنى أوضح.
هذا هو لبّ الصراع الجاري اليوم، مهما تعددت مفردات التعبير عنه أو بدت مختلفة. فالحديث عن «أزمة مالية» على وشك الانفجار، قد تقوض سياسة تثبيت سعر صرف الليرة، هو تماماً كالسؤال الذي يدور بعد نهاية كل حفلة عمّن سيسدد الفاتورة: هل هم الخاسرون دوماً، الذين يحتاجون إلى أجر اجتماعي من الدولة للصمود أكثر؟ أم هم الذين ما انفكوا، على مدى 25 عاماً، يكدسون الودائع الضخمة في المصارف، ويجنون الأرباح الفاحشة من إعادة توظيفها في زيادة مديونية الخاسرين أنفسهم، سواء بطريقة مباشرة لتمويل سكن الأسر واستهلاكها، وهو ما بات يستنزف نصف مجمل مداخيلها تقريباً، أو بطريقة غير مباشرة عبر زيادة مديونية الدولة (الحكومة ومصرف لبنان وسائر المؤسسات العامة)، وهو ما يستهلك نصف ما تدفعه هذه الأسر وكل المهن كضرائب ورسوم وتعرفات وإتاوات مختلفة؟
جواب دعاة «التقشف» جاء واضحاً. أطلقوا حملة واسعة النطاق، مدعومة بالإعلام وتقارير المؤسسات المالية الدولية وتحليلات الخبراء، تحذّر من أن الانهيار بات وشيكاً، وأن لا مناص، برأيهم، من خفض الإنفاق العام فوراً، بمعدلات محسوسة، وضبط العجز المالي لتخفيف الضغوط على مصادر التمويل، وإحلال الرساميل الخاصة محل الدولة لتعويض كل نقص في الخدمات العامة وتجهيز البنى التحتية وإدارتها وتشغيلها واستثمارها.
في هذا السياق، تُسلَّط الأنظار على ثلاثة أبواب من الإنفاق يجدر تقليصها أو التخلص منها، وتصنّف في خانة «الهدر»، أولها إلغاء دعم أسعار الكهرباء، الذي يكلّف هذا العام 1.4 مليار دولار، وبالتالي نقل هذه الكلفة من الموازنة العامّة إلى ميزانيات الأسر مباشرة. ثانيها، نظام التقاعد في الملاك العام، ولا سيما في السلك العسكري والقضائي والهيئة التعليمية، الذي يكلف 1.7 مليار دولار، وبالتالي تعريض آلاف الأسر لمخاطر انخفاض الدخل. وأخيراً، الرواتب والأجور عموماً، التي تشكّل ربع إنفاق الموازنة العامة، وتُعَدّ مصدر الدخل الرئيسي لنحو 150 ألف أسرة.
من المثير للاهتمام أن باب الإنفاق الأكبر، المتمثل بخدمة الدين العام (الفوائد)، لا يُتناوَل في هذا السياق، فلم تظهر أي اعتراضات على لجوء مصرف لبنان إلى دعم الفوائد الدائنة لدى المصارف ورفع أسعارها بما بين 2 و3% اعتباراً من الشهر الأخير من العام الماضي، علماً أن مصرف لبنان نفسه أعلن في العام الماضي «أن كل زيادة بنسبة 1% في سعر الفائدة تزيد خدمة الدين العام نحو 1.3 مليار دولار سنوياً».
هذه هي الأزمة التي نواجهها اليوم، هي أزمة رأس المال التي نريد تحويلها إلى أزمة إنفاق عام مجدداً. وهذا ما يدور الصراع حوله: من سيتحمل كلفة الاستمرار في خدمة مصالح رأس المال. وكل ادعاء آخر هو محض هراء.
*عنوان كتاب مارك بليث ــ ترجمة عبد الرحمن أياس ــ عالم المعرفة ــ