رام الله | على عكس جميع التكهنات لما يمكن أن يحمله موقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس والقيادة الفلسطينية من العدوان الإسرائيلي على غزة، جاء خطاب أبو مازن قبل يومين، وبيان القيادة الذي تلاه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عبد ربه بعد ذلك بساعات، داعمين لغزة والمقاومة بقيادة حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، مُحدثاً بذلك صدمة غير متوقعة على كافة الصعد تشي بحدوث تغيرات جذرية في الساحة السياسية الفلسطينية.
كلمة عباس المقتضبة الغاضبة الداعمة للمقاومة البعيدة عن اتهام «حماس» بالتسرع ووصف صواريخها بالعبثية كما هو معتاد، فاجأت الشارع الفلسطيني الذي لم يعد يخفى على أحد منه حجم الفجوة بينه وبين السلطة ورئيسها، وهي فجوة تعززت واتسعت بنحو دراماتيكي منذ خطف المستوطنين الثلاثة في حزيران الماضي ووصلت ذروتها في الأسبوع الأول للعدوان على غزة.
ولم يعد بالإمكان التغاضي عن التردي غير المسبوق في شعبية الرئيس الفلسطيني مقابل تعزيز شعبية «حماس» و«الجهاد الإسلامي» بعد نجاحهما في إحداث ضربات موجعة لإسرائيل وإبراز تقنيات أكثر تطوراً للمقاومة.
تردي شعبية عباس هذا جعل إمكانية قبول أي حل أو مبادرة يكون فيها هو ممثلاً للفلسطينيين أمراً يستحيل قبوله من الشارع الفلسطيني وغير موثوق في إمكانية ارتقائه إلى حجم خسائر سكان غزة.
كذلك لم تترك إسرائيل من خلال وحشية جيشها المتمثلة في استهداف المدنيين أي إمكانية لعباس في أن يتخذ مواقف مشابهة لتلك التي تبناها في الحربين السابقتين على غزة عامي 2008 و2012 والتي حمّل حينها «حماس» مسؤولية تردي الأوضاع التي أدت إلى خيارات الحرب وقلل فيها من فاعلية المقاومة وإطلاق الصواريخ كخيار للحل.
إسرائيل التي فقدت الكثير من هيبتها أمام العالم وشعبها بسبب الضربات النوعية التي تلقتها من المقاومة من جهة وبسبب وحشيتها في استهداف المدنيين من جهة أخرى أصبحت تبحث عن انسحاب يحفظ ما بقي من ماء وجهها الذي سيُراق تماماً إن لم يكن الطرف الفلسطيني المقبول لها إلى حد ما، ألا وهو الرئيس عباس، هو الجهة التي يجري من خلالها التوصل إلى اتفاق. إذ إن وجود «حماس» كطرف حاسم للحرب، سيُكلِّل مشهد الحرب بالهزيمة من أوله لآخره. وهو الأمر الذي يُفسر رد الفعل الإسرائيلي غير الساخط على موقف عباس والقيادة الفلسطينية.
كل هذه المعطيات كانت أسباباً تدعو الرئيس الفلسطيني ورموز السلطة والمنظمة الذين كثيراً ما اتُّهموا بالوقوف وراء تبني عباس مواقف متشددة ضد «حماس» مثل ياسر عبد ربه إلى تبني موقف يرأب جزءاً من الصدع الواسع بين السلطة والشارع الفلسطيني التواق إلى قيادة تُعلن الرفض الواضح والعلني لجرائم إسرائيل في غزة. وكان ذلك الموقف المؤيد تماماً للمقاومة والمُبرّئ لـ«حماس» من المسؤولية عن تدهور الوضع في غزة، والمُهدد لإسرائيل بملاحقتها دولياً.
على صعيد آخر، أعاد موقف السلطة والقيادة الفلسطينية المفاجئ شيئاً من الهيبة لحركة فتح التي لم يعد يخفى على أحد ازدياد التشظي والخصومات والصدامات بين تياراتها المختلفة، وبالتالي تراجع شعبيتها بشكل كبير، في الوقت الذي ترتفع فيه أسهم «حماس» و«الجهاد الإسلامي» بفضل ما أحرزته المقاومة أثناء الحرب على غزة، والنأي عمّا يشوب السلطة من فساد.
وقد لوحظت عودة «كتائب شهداء الأقصى» الذراع العسكرية لحركة فتح إلى الواجهة بعد غياب دام طويلاً عن العمليات النوعية ضد الاحتلال، اذ أعلنت الكتائب مسؤوليتها عن إطلاق النار على جندي إسرائيلي على الطريق الواصل بين بيت لحم والخليل.
كما بدا عباس في كلمته بموقف الحامي لحكومة الوفاق الوطني التي شُكلت قبل أيام من خطف المستوطنين.
سيناريوات الحرب مع إسرائيل محسومة بالنسبة إلى «حماس» من حيث المطالب التي ستعرضها مقابل وقف إطلاق النهار ومبادلة الجندي الأسير شاؤول أرون، وستكون كل السيناريوات خاضعة لما ستحسمه نتائج الحرب البرية والجوية من الطرفين. ومن المرجح أن تكون الكلمة الفصل هنا للمقاومة.
لكن الأمر الأصعب الذي يواجهه الفلسطينيون، وخصوصاً الغزيين، هو مسألة معبر رفح والعلاقة مع مصر التي أمعنت في إيلام غزة بمنعها دخول الدواء والأطقم الطبية وإخراج الجرحى أثناء الحرب.
وهنا تبرز أهمية دور أبو مازن القريب من الرئيس عبد الفتاح السيسي المتعنت إزاء أي اتفاق بشأن معبر رفح يعود بالفائدة على نفوذ «حماس» في غزة.
قيادة عباس لملف معبر رفح يعني بشكل أو بآخر عودة قطاع غزة إلى سلطة رام الله، وسيتعزز ذلك إذا ما نجح عباس بالفعل في إبرام اتفاق يعيد المعبر إلى العهد الذي سبق سيطرة «حماس» على القطاع عام 2006.
ومما لا شك فيه أن «ترميم العلاقة» بين مصر وغزة هو أول تحد يواجهه عباس إذا ما تحقق هذا السيناريو. لكنه بالتأكيد ليس التحدي الأوحد. فالانحياز إلى نبض الشارع الداعم للمقاومة لن يكون مقنعاً دون تدعيمه بمواقف أخرى تقطع شك المُشككين باليقين.
وإذا ما نجح عباس بـ«ضم» قطاع غزة من جديد، فسيكون أمامه التحدي الأصعب، وهو الحفاظ على حكومة الوفاق الوطني وما ينتظرها من ملفات صعبة على رأسها إعادة إعمار غزة وتأمين الرواتب ومكافحة الفساد.