«نزلة» عين السكّة. هكذا يسمّيها القاطنون هناك. يختصرون منطقة بطولها وعرضها بنزلة صغيرة تبدأ عند مستشفى الرسول الأعظم وتنتهي عند نادي الإمام الحسين في المنطقة. مسافة صغيرة صارت بالنسبة إليهم كلّ المنطقة. ليل أمس، عندما اهتزّت بيوت الآمنين في منطقة برج البراجنة، لم يكن في البال أنه، عند «عتبة» النزلة، سيسقط النصف الأكبر من الشهداء، وأوّلهم عادل ترمس، الشاب الذي احتضن الانتحاري كي لا يشيع موتاً أكبر.أمس، طفر النعاس من عيون ناس عين السكّة. وقف بعضهم متفرّجاً على موتٍ أتاهم مزدوجاً، فيما انشغل البعض الآخر بتحريك الأجساد «المكتملة» والمبعثرة على الأرض، علّه يجد فيها نبضاً. ساعات ثقيلة مرّت على ناس «العين»، وكأنها دهر. كأنّه «يوم القيامة»، يقول علي، صاحب أحد المحال هناك. عندما وقع التفجير، خرج علي من محلّه. صار يركض باتجاه الساحة ليساعد في لملمة أشلاء الضحايا «لكنني لم أصل إلى الساحة. ضعت في الزواريب الملتهبة كأنني لم أعش هنا لحظة واحدة»، يقول. اشتعلت العين من أوّلها إلى آخرها. «فار التنّور»، على حدّ قول أبو مصطفى برّو. طارت أبواب المحال، و«تفرطع» زجاج الواجهات والسيارات المركونة على جانبي الطريق، أما البيوت التي تعلو المحال التجارية، فقد بقرت أحشاؤها وتدلّت محتوياتها من الشرفات. هكذا مثلاً، سترى «شرشفاً» طار عن السرير الذي صار مكشوفاً إلى الشارع. سرير أحدٍ ما قد صار شهيداً. ربما. تعرّت البيوت المواجهة للنزلة. صارت بلا جدران، حتى لم يعد باستطاعتك تخيّل النافذة أين كانت... ولكن، باستطاعتك تخيّل أشخاصها، من أشيائهم التي بعثرها الموت أمام ناظريك. وعلى طول الشارع، انفلشت بقع الدماء التي صار لونها أسود بعدما وصلتها الشمس. ثم شيئاً فشيئاً، صارت رائحتها أقوى.
اليوم، لم تستفق عين السكّة كما عادتها. وهذا أمر غريب قد يحدث في شارع تدبّ فيه الحياة باكراً. الزواريب بلا ناسٍ. هادئة حدّ الحزن، لا يخرق سكونها إلا صوت «القرآن» الخارج من بيوت الشهداء التي شرعت أبوابها للعزاء. ما عدا ذلك، لا أحد. لم يخرج الناس إلى يومياتهم. ومن خرج منهم، هرع ليتفرّج على ما خلّفه الانفجاران في الشارع. لكنهم، مع ذلك لم يصلوا. وقفوا خارج الشريط الشائك الذي وضعه الجيش اللبناني وحزب الله منذ ليل أمس لـ«حماية» مسرح الموت. وقفوا يتفرّجون على الأدلّة الجنائية وعلى موظفي بلدية برج البراجنة الذين كانوا ينظّفون الشارع. كان واحد منهم يجلس في الرافعة، يقصّ الشرائط المتدلية من الأعلى وينزل صور الشهداء التي تفككت أطرافها. كان ينزع كل شيء، إلا الرايات السوداء، فقد كان يسوّيها بهدوء. يسدلها على طولها. كأنه يريد «أن يقول لنا هيهات منّا الذلّة»، تقول الصبية التي أتت هي الأخرى متفرّجة.
وعلى الأرض، كان عناصر الدفاع المدني يلملمون في أكياس من النايلون الشفاف قطع لحم أشخاصٍ كانت لهم حيواتهم. لمن هذه الأشلاء التي تلملمها صبية الدفاع المدني؟ من هو الشخص الذي صار بحجم كيس من النايلون؟
ينظر علي برّو، صاحب أحد المحال، إلى الكيس، مستذكراً جيرانه الذين قضوا. يشير بإصبعه إلى محل «الشيماء» ويتذكّر ابراهيم «السوري الذي أتى غريباً إلى هذا البلد ورحل غريباً». أمام المحل، لم يبق إلا «فردة» حذاءٍ بني اللون. يغصّ الرجل، وهو يشير إليها «هذا حذاء ابراهيم بقي في مكانه». على مقربة من حذاء ابراهيم، بقيت أيضاً «شحّاطة» سوداء اللون، وراح صاحبها. عندما راح كل هؤلاء «كنا نشرب الشاي»، ثم يردف «شي متل الكذب، ولكن الله ستر، فقبل 10 دقائق من الانفجارين كان هناك احتفال بيوم الشهيد وقد قطعت الطريق، ولو أنه لم يكن هناك احتفال لراح أكثر من هذا العدد بكثير». يرفع يديه إلى السماء متمتماً بكلماتٍ غير مفهومة، ثم يعود. يطأطئ رأسه ويبكي. يكمل جاره ما حدث «دوّى الانفجار الأول عند مطعم إل إف سي في آخر الشارع. هرعنا كلّنا للمساعدة. كان يجلس إلى جانبي كاظم ركان من نبّل والزهراء في سوريا، وكان يأكل سندويشاً رماه أرضاً وركب دراجته وقال لي اركب، لكنني رفضت لأنني أريد أن أقفل المحل كي أذهب». أقفل الرجل محلّه، فيما ركب كاظم دراجته وشق طريقه مسرعاً إلى الله. وعلاء ابن الخامسة والعشرين ربيعاً هرع ليساعد في لملمة الأشلاء «التي كنا نضعها في الصناديق وعلى عربات الخضار»، فراح هو الآخر، تاركاً والدة تبكي وحيدها. هذه الأم التي افترشت درج بيتها، بصوتٍ يشقّ طريقه إلى الله «يا علاء. ما بقى في غيرك». يهمد جسدها قليلاً، ثم يفور بالصوت نفسه «يا علاء». على مقربة من بيت علاء عوّاد، هناك بيت روان عوّاد، الشابة التي اصطدمت بالانتحاري عند باب مدرسة التكامل التي تدرّس فيها مادة اللغة الإنكليزية. قبل ثلاثة أيامٍ من موتها، كانت قد نالت جائزة الطالبة المتميزة في قسم الماجستير في كلية التربية. لا يعرف الجيران عن روان سوى أنها كانت «متفانية في عملها ودرسها... ومن البيت عالمدرسة ومن المدرسة عالبيت». أما أحلامها؟ فقد التصقت على حافة الشارع. وعلي، ابن الرابعة عشر ربيعاً الذي عاش بلا أم. ثمة كثيرون رحلوا، ولكنّ واحداً منهم سيبقى أيقونتهم: عادل ترمس. «الأخ»، كما ينادونه في الشارع. هذا الأخ «احتضن الانتحاري بعدما شكّ به، فانفجرا معاً عند مدخل مسجد الإمام الحسين»، يقول أحد سكان الشارع. عادل له من الدنيا طفلان. عندما يكبران، سيقولان «نحن أولاد البطل»، هكذا يخمّن الرجل.
إلى جدران عين السكّة المزدحمة بصور الشهداء، أضيفت صورة عادل «البطل»، كما كتب في الأسفل. يروي شهود عيان هناك أنه بعد سبع دقائق على الانفجار الأول، وقع الانفجار الثاني عند مدخل النادي الحسيني. هناك، كان يقف عادل. يقول أحدهم إنه قبل وقوع الانفجار الثاني بثوانٍ «سمعت صوت تكبير (الله أكبر) ثم دوّى الانفجار». يتابع «رأيته هناك (الانتحاري) كان يلبس رينجر متل شباب حزب الله للتمويه ربما». وبعدها، حدث ما حدث. اختلط الصراخ بالمناجاة. غرقت النزلة في دماء أبنائها. هرعت الأمّهات والآباء يفلفشون الأجساد المرمية والأشلاء، علّها تكون لأحدٍ من أحبائهم». لا شيء يعيد الزمن إلى الوراء. أهالي نزلة عين السكّة سيضيفون إلى ذاكرتهم مجزرة النزلة التي ساقت 43 شهيداً في طريقها.