لا شك في أنها سعادة مطلقة ما يشعر به الأسرى الأحرار اليوم. لكن هناك شعوراً أبعد من ذلك، لا يمكن أن يصفه الا أن من عانى الأسر، فكيف إذا كان عميد الأسرى، سمير القنطار، الذي دخل فتىً مليئاً بالحماسة والإيمان في عزّ المقاومة الفلسطينية، وخرج رجلاً بعد 30 عاماً قضاها في الأسر. الحماسة والإيمان ازدادا لديه، قاد خلال ذلك أشرس المعارك مع رفاقه لانتزاع حقوق للأسرى وتحسين شروط اعتقالهم، لكن بين سطوره، تلحظ طفلاً شقياً، شيطنة تغزل في عينيه، عاطفة لا يقدر على إخفائها في ملامحه القاسية.
يرفض القنطار في بداية الحديث تسمية «صفقة التبادل»، فالصفقة تُطلق على عمل تجاري، هذه عملية تبادل أسرى، جاءت في هذا التوقيت بالتحديد بعدما نضجت الظروف عند الطرفين، المقاومة والكيان الصهيوني. ويصف العملية بأنها إنجاز أمني كبير للمقاومة، أولاً لكونها أول سابقة من نوعها لأنها جرت داخل فلسطين المحتلة، مشيراً الى أنّ الأسير الاسرائيلي جلعاد شاليط كان تحت السيطرة غير المباشرة للاحتلال، ورغم ذلك عجز عن فك أسره. وثانياً أن المقاومة استطاعت أن تحافظ عليه لأكثر من 5 سنوات، ويضيف «كنت أقول إنها لو استطاعت الحفاظ عليه 6 أشهر داخل قطاع غزّة لكان إنجازاً أمنياً كبيراً، فكيف الحال ان كانت الفترة 5 سنوات».
يبدي القنطار الكثير من التفاؤل والتفهم. يهنئ رفاقه الذين خرجوا للحرية ويبعث رسالة أمل لمن بقي في الأسر، كالسعدات وعبد الله ومروان البرغوثي. يقول إنه في عام 1985، أجرت الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، عملية تبادل لإطلاق سراح 1150 أسيراً، وكان هناك 36 أسيراً أصرّ العدو على إبقائهم، وبعد مفاوضات بقي منهم 16 أسيراً في السجن، ومن ضمنهم القنطار.
ويشير القنطار الى أنه ورفاقه لم يحزنوا بسبب ذلك، أو يعدّوا العملية غير مكتملة، بل على العكس، رأوا ما جرى إنجازاً كبيراً في سجل المقاومة. يذكر سمير أن اسمه لم يكن موجوداً في قائمة الأسرى في حينها، لكنه لم يبال، لا بأس، لينتظر حتى عملية التبادل المقبلة، فهو مؤمن بأنه سيخرج لا مفرّ. حزن عندها لفراق الأهل والرفاق.
وجرت بعدها عمليات عديدة لإطلاق سراحه وباقي الأسرى، مشيراً بذلك الى خطف السفينة الايطالية «أكينو لاورا» في الثمانينيات. وأشار الى عملية التبادل التي جرت في عام 2004، حينها رفض العدو أيضاً إخراجه، لكنه لم ييأس. ورسالة الأمل هذه يريد أن يبعث بها القنطار الى كريم يونس ووليد الدقة والسعدات والبرغوثي، الذين بقوا في الأسر.
وينتظر القنطار همّة المقاومة الآن كي تنجز عملية أسر جديدة لتحرير باقي الأسرى. وهذه مهمة كل تنظيمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية. ويشير الى أن مثل هذه العمليات تشجع الشباب الصاعد على مواصلة السير في خطى المقاومة، لأنه يعلم أنه لن يترك في الأسر. فعملية الجليل ساهمت في تفجير الانتفاضة الأولى، وشجعت الشباب على الانخراط في عمليات المقاومة.
هناك علاقة وثيقة تربط القنطار بالكثير من الأسرى المحررين اليوم، نائل البرغوثي، توفيق أبو نعيم، روحي مشتهى ومحمد الكرد وعبد الرحمن شهاب ووائل أبو فنونة، وجهاد غبن وغيرهم. يبتسم حين يتحدث عن توفيق، لقد خاضا معاً أشرس المعارك ضدّ سجّانهم من أجل تحسين شروط معيشتهم، وكانا معاً في هيئات قيادية مشتركة. تجارب كثيرة عاشها مع رفاقه في خوض الإضرابات عن الطعام وتشكيل هيئات. يقول «هؤلاء رفاق رحلة طويلة من المعاناة، كان لدي دوماً هاجس أن بقاءهم يجب أن ينتهي». ويضيف «شعرت بأن حريتي ناقصة، لكن الرفاق كانوا واثقين أنهم سيلحقون بي». يتحدث عن نائل البرغوتي، يقول إنه التقى به في عام 1982 في سجن بئر السبع ثم في نفحة في أواخر التسعينيات، يصفه بأنه «مناضل ومجاهد وصاحب مبادئ، معاشرته طيبة».
يتطرق القنطار الى معاناة الأسرى، ويقول إنهم قدموا أكثر من 200 شهيد داخل السجون، وإنهم عملوا بأنفسهم على مدى عقود من أجل تحسين أحوال أسرهم داخل سجون الاحتلال. ويسخر من التحليلات الاسرائيلية التي تحاول التغطية على فشل المؤسسات الأمنية والاستخبارية. يقول إن هذه العملية تخطت كل الخطوط الحمر التي كان قد وضعها الكيان الصهيوني. كان يقول «لن أطلق سراح أسرى أيديهم ملوثة بدماء اسرائيليين، أو أسرى من فلسطينيي 48 والقدس المحتلة، وها هو اليوم يخضع للمقاومة. هذه العملية كسرت جميع المعايير». ويشير الى أن الكيان الصهيوني أراد من خلال هذه العملية أن يبين لجنوده أولاً أن قيادته لا تتخلى عنهم، لإبقاء حالة الاندفاع عندهم، ولاسيما أنهم ينتمون لشعب مكون من خليط متنافر لكونه يأتي من مجتمعات مختلفة. وأن يعمل عبر شاليط ثانياً على تكوين رموز يخلق حالة إجماع حولها وتكون جاذبة للانتباه. اضافة الى إظهار أن الصهيوني يساوي كل هذا الكمّ من العرب، وهذا يخلق حالة شحن قومي وعنصري كبيرة.
القنطار كان يفرح كثيراً عندما يرى غيظ السجانين الاسرائيليين من نصر تحققه المقاومة، بل كان يستمتع بإغاظتهم عبر تذكيرهم دوماً بالهزيمة والعار. يقول إن هؤلاء يكونون بحالة نفسية سيئة جداً وهم يطلقون سراح الأسرى، لأن الأسير الذي لم يكفّوا عن القول له إنه سيتعفن في زنزانته، يخرج اليوم حراً عزيزاً مرفوع الرأس.
وأكثر ما أسعد هذا الطفل المشاكس عند قنطار هو رؤية وجه إيلان بوردا على إحدى القنوات الاسرائيلية قبل أيام. بوردا كان مدير سجن نفحة واليوم هو مدير سجن كيشعوت، حيث وضعوا أخيراً كل الأسرى الذين أطلق سراحهم. كان مسؤولاً عن التنكيل والتعذيب بحق معظم الأسرى والمجاهدين. يبدو قنطار وكأنه يريد أن ينفجر ضاحكاً لكنه يعود ويمسك بنفسه ويقول «كان وجهه ينقط سماً».
ويلفت الى بعد شخصي لعملية التبادل اليوم بالنسبة إلى بنيامين نتنياهو، فهي تنكأ في جرح شخصي له، مشيراً بذلك الى عملية خطف طائرة في عنتيبي أوغندا. في حينها سافر شقيق نتنياهو لتحرير ركاب الطائرة، لكنه عاد قتيلاً. الخروج من الأسر لا يعني نهاية المعاناة، هناك نضال من نوع جديد ينتظر الأسير. يقول القنطار إن على الأسير أن يبقى متماسكاً، أن يرفع سقف توقعاته من نفسه، ويخفض سقف التوقعات من الآخرين. ألّا يتوقع من أحد شيئاً، فهو لم يفعل ما فعله من أجل مكافأة ما بل من دافع الإيمان بقضية انسانية. ويضيف: على الأسير أن يخرج السجن من روحه أولاً قبل أن يخرج الى الحرية كي يقدر على العيش. والمقاوم هو أقدر من يستطيع أن يتجاوز هذا القطوع.
سمير خرج بعد 30 عاماً. سرق المحتل أجمل سنوات عمره. ظل مؤمناً متفائلاً ومتماسكاً. خرج ليولد من جديد. أسس عائلة وأنجب للحياة مشروع مقاوم. ابنه علي، الذي يبلغ اليوم شهرين و19 يوماً. لم ييأس، كان يتوقع أن يخرج يوماً ويبني هذه العائلة الجميلة..