مهما بدا وقع الأيام قاسياً، لكنّك عندما تلتفت إلى الوراء لترى ما قد فاتك، تتذكّر أن الغد القادم مكسوّ بالسخام، أو على الأقل هكذا يبدو لك. لا يكفي التحديق في الشيء لمعرفته بل يجب رؤيته، لأن الرؤية صنو الإدراك. يتيح النظر ما هو أبعد من الفرجة، التي تكاد تقتلنا جرّاء تناولنا جرعة «مشاهدات» زائدة، وأكثر من الوقوف على مضض، بأيدٍ مكتوفة مصابين بالخرس نراقب حدوث ما لا ينبغي حدوثه. يجيز النظر تبيان ما يكتنفه الغموض، وبدرجة أقل، اقتحام العالم والكشف عنه ولو بدت صورته مرعبة، ذلك أفضل من ضجر الانتظار وضوضاء الزحمة، ولأن صورة العالم هي أيضاً، صورتنا نحن، أو كما قال جيجك: «إن الصورة، بالطبع، تكمن في عيني، لكنني أيضاً في الصورة».
(تصميم: هاشم رسلان)

لي عينان وأرى: العظام تبرز من الوجوه، قطّة تلاحق فأراً، معرض تشكيلي مكوّن من حاويات قمامة يُعرض مجاناً على الأرصفة، ثرثرة عبثية لا تبوح بشيء سوى توكيدها أن أصل الكلام صوت وصراخ، حذر وترقب وهدوء أشد صخباً من مدافع الحرب. اليد ترتعش لا يمكن لجم رجفتها، لكن لا يا صديق، لا نريد أن نصدق أن الخروج من المنزل، هو كما وصفته مرة، «مغامرة كبيرة». الفوضى تعمّ في الخارج والمدينة منكوبة، تستحضر الجحيم عندما تزور الدوائر الرسمية، وأبطال شكسبير تحوّلوا إلى رماد، لكن وبالرغم من هذا على أحدنا أن يرتحل عن العتمة الكامدة ليقبض على الضوء. فقط عند لحظة الخروج هذه، باستطاعتنا أن نرى، أن نكشف مثلاً مدى عشق الحكومات للعمى وتواطؤ العالم معها. كيف أنها تحت ذرائع واهية تمنع عنك النظر في قضايا لأنه ممنوع عليك معرفتها. وبعيداً عن فانتازيا الحكومات في المراقبة والعقاب، أو تهويمات الأخ الأكبر الذي يتربّص بك، هناك الابن التائب المعذّب، ذلك الذي ضلّله القدر وأعماه؛ لا تنسَ أوديب، الملك الذي اقتلع عينيه عندما أدرك فعلته المهولة. الأعين تفتق الغشاوة، كأنها الوحيدة القادرة على القبض على الأسرار، أترى؟
من القليل الذي بقي لدينا وسط هذا الخراب السقيم، هو أوقات متفرقة لأعصاب هادئة، وعينان تريان من ضمن الحواس التي ما زالت فعّالة. وحدها الرؤية كفيلة لإنقاذنا من الهاوية التي كلما التفتنا إليها بدا الوقوع فيها قريباً. ما أزال أملك عَيْنَيَّ، وما دمت تملك عينيك، فلا تُصْغِ إلى دي كابريو القائل: «لا تنظر إلى الأعلى»، هذه دعاية حكومية. اُنظرْ لترى، المهم أن تحافظ على قوّة عينيك، وأن لا تشيح النظر.