(تصميم: فرانسوا الدويهي)
مرة أخرى يتفوّق الواقعي على الخيالي، ينتصر المُرعِب بما هو تمظهرٌ للرعب على حقيقة الرعب نفسه الذي نعلم أنّه موجودٌ ومنتشرٌ، وقد يكون مرئياً وخفياً. في الأيام الأولى من هذا العام، سُرّبت بضع وثائق قانونية تخصّ محاكمة جيفري إبستين، واتضح لنا أنّ لا دعابات على ظهر أوراق الروزنامة بل حكايات تراجيدية دامية. قصة واقعية قصيرة بطلها العالم الفيزيائي ستيفن هوكينغز، بدت أكثر رعباً من قصة فريدريك براون «الطرقة» التي تُصنّف على أنها أقصر قصة رعب في العالم: «آخر شخص في العالم جلس وحيداً في الغرفة، فسمع صوت طرق على الباب». ستيفن هوكينغز الذي كان يتعمّد الذهاب إلى ليتل سانت جايمس ليستطيع مشاهدة قزمات قاصرات عاريات يحلّلن معادلات رياضية معقّدة على سبورة عالية. هذه واحدة من قصص عدة لا يختلف بعضها عن بعضٍ كثيراً، باستثناء حجمها ربما، فبالتأكيد في جعبة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون الذي كان زائراً دائماً لجزيرة جيفري إبيستين قصصٌ مرعبة طويلة أكثر.
والبليونير الأميركي جيفري إبستين صاحب جزيرة ليتل سانت جيمس هو رجل أعمال أميركي وعمل قوّاداً في خدمة النخب الفنّية والسياسية والعلمية. انتحر إبستين في زنزانته عام 2019، وهي حادثة شائعة ألِفناها وتعوّدنا عليها، تتكرر كلما هدّد الأشرارُ النافذين بفضح المتورطين معهم، أو كلما وصلت سيرتهم إلى فصلها الأخير. عندها يحضر القتل متنكّراً، تُطمس الأدلة ويكون الانتحار ذريعة الموت ويُغلق الملف، وكأنّ المراد في هذا تحميل المقتول، لوحده، مسؤولية حاضره وتاريخه، بالتالي، يغدو موته بمنزلة الخاتمة لفصول ماجنة خاضها منفرداً من دون أن يشاركه فيها أحدٌ، ولك من قراره الحر الذي قاده لنحر نفسه دليلٌ. وقد استطاع إبستين منذ مطلع الألفية الثانية أن يخلق في «العالم الجديد الشجاع» جحيماً مموّهاً ظاهرياً، إذ عرّف جحيمه على أنه جزيرة؛ ذلك حتى ينعم مع أصدقائه، وزملائه، وزبائنه في خرق المحظور وفي انتهاكه.
جزيرة إبستين التي حكمتها عقول وخيالات سايكوباثية كانت بؤرة مرعبة قطنتها وحوشٌ ارتكبت فيها ممارسات مريعة أقرب ما تكون إلى تدنيس العرق البشري. الجزيرة، مع إبستين، ليست مجرد جزيرة. نحن لسنا أمام مساحةٍ نقيّة ترمز إلى النقاهة والاستجمام، كما أنها ليست موطناً لمقطوعي السبل مثلاً، كما هو الأمر في رواية روبنسون كروزو. ليتل سانت جايمس أو جزيرة إبستين، التي تعرّف أيضاً بجزيرة البيدوفيليا، هي تلك الفسحة الشاسعة التي تُجيز إطلاقَ العنان للتهويمات الفاشية لمن يُدير العالم وشؤونه، هي ذاك المكان الذي يفسح المجال أمام الوعي الموبوء ليداعب أمراضه. نحن إذاً أمام جزيرة فاسدة، ستُحيلنا بدورها إلى الديستوبيا باعتبارها المدينة الفاسدة. على أنّ الجزيرة هذه، بمجرد أن نالت تسميتها، «جزيرة البيدوفيليا»، انكشفت للمخبوء وبانت أسرار الكواليس. لكن وجود تلك الجزيرة أيضاً يحثّنا على التفكير في جزرٍ أخرى غير مُكتشفة بعد، أو جزر نعرف عنها، ونتناقل أخبارها شفهياً بشيء أشبه ما يكون بالنميمة، خوفاً من مصير مرعبٍ يلقاه القائل إذا ما نقل رعبَها، لما تحمله من رعبٍ. نتحدّث عن أنظمة تضع أجهزة تنصّت داخل المراحيض، وأعين تراقب الشوارع، وجدران تسمع. نتحدث عن مدنٍ لم يعد حاضرها، المرعب والفظيع، آهِلاً للعيش، وعن سِيَرٍ مرعبة لم تكن قبل هذا العدد مدوّنةً بعد، لذلك سيكون هذا العدد والعدد الذي يليه مخصّصان في هذا الشأن.