انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة فيديو سجّله سائح عربي وصل إلى لبنان، يظهر فيه سياراتٍ تمرّ وأخرى تتوقّف، في حركة سير تعتبر عادية جداً، بيد أنها أصابته بالذهول. مشهد السيارات الذي صوّره السائح يحدث في شارعٍ وصفه بالضيق، على الضفة الأخرى منه شارع يضاهيه حجماً، أي إنه ضيق بدوره، والشارعان اللذان تحيط بهما أبنية شاهقة، لا حاويات قمامة قريبة منهما، سيصفهما السائح بأنهما شارعان نظيفان و«كيوت»، أي إن مشهد الشارعين يتحلّى بـ«نعومة»، ما يمتّع الناظر ويريح نظره. نسمع السائح المتواري خلف الكاميرا يعلّق بدهشة عارمة تكاد تطيح صوته، على طريقة تعامل اللبنانيّين في قيادة سياراتهم وكيف يتعاملون بعضهم مع بعض في الطريق. لا شيء يبدو استثنائياً في الفيديو: مجموعة من السيارات في الشارع، بعضها يتوقف لكي يمرّ غيره، إشارات المرور معطلّة بطبيعة الحال، والكثير من الهدوء الحذر الذي تستطيع سماعه رغم كلام السائح المستمر، ومديحه المزعج، وضجيج الشارع.
(هاشم رسلان)

في مشهدٍ مفرط بـ«عاديّته» اختار السائح العربي أن يترجم المشهد الماثل أمامه سيميائياً، أي بلغة العلامات. أخذ من «نظافة» الطريق، والشارعين «الناعمين»، ومسار السيارات في المرور وفي التوقف، عناصر راسخة ارتأى أنها تشكّل بتفاعلها بعضها مع بعض سياقاً «متناغماً» و«متفاهماً»، كما جاء على لسانه. سيخلص السائح العربي الغارق بدهشته حتى العماء إلى أن هذا السياق السلِس، «المتناغم» و«المتفاهم»، يقول أكثر مما يبدو عليه؛ إنّ هذا «التناغم» و«التفاهم» ميزتان حضاريتان بادئ ذي بدء، ثم إنهما تدلّان على «جوهر» شعب يتكلّم بعضه مع بعض بطلاقة، فضلاً عن أنه يتقن لغته جيداً. وكأن هذه اللغة الناصعة والحضارية هي ما يجعل من قيادة السيارات فعلاً استثنائياً غير عادي، ولأنها جوهرية فلا تتوانى هذه اللغة عن ترجمة نفسها في مواقف مهما بدت هامشية أو عابرة، إلّا أنّها تصقل هذه المواقف إلى مصاف الجميل. وحيث هناك بلدانٌ تحوي شعوباً لا تتحلى «جوهرياً» بما يمتاز به اللبناني، إنما «جوهرها» بعيد تماماً عنه ولا يقارن مع جوهره، فإن لغة تلك الشعوب تركن إلى النقيض: هي متبعثرة، ركيكة بل متقلقلة، بالتالي، ستكون نتيجة طرقات البلدان التي تعيش فيها تلك الشعوب كارثية، وأحوال السير فيها مأساوية، والمشهد، منطقياً، لن يكون «كيوت» إطلاقاً. هكذا، استنتج السائح العربي أنّ النقص الذي يعتري بلاده يعود إلى وجود «شعبٍ» (لن نذكر جنسيّته) جوهره هجين ولغته هشّة. وبدورنا، في وسعنا أن نفهم على الطريقة السيميائية نفسها أن سبب سياحته إلى لبنان في موسمٍ غير سياحيّ يعود على الأرجح إلى التفتيش عن فسحةٍ متخيّلة والتشدّق بها، وإكثار المديح فيها، هكذا يعوّض العنصري عن عنصريّته.
غير أنّ السائح الذي يتعامل مع لغة العلامات بطريقةٍ كاريكاتورية كان لا بدّ من صوت زمور عالٍ حتى يتوقف، ذلك أنّ استنباطه لطبائع شعبٍ عبر مراقبته لحركة السير يشبه تناول الحساء بالملعقة. عدا عن خيار الأخير تصوير «نظريته» في شارعٍ يحتاج اللبناني إلى معجمٍ حتى يفهم لغته، بسبب «جوهر» ذلك الشارع الخاص، فقد غاب عن بال السائح أنه لو اتّبع منهجاً صارماً في قراءته السيميائية تلك، لربما كان قد وصل إلى خلاصاتٍ جمّة، لخّصت له كتباً تاريخية كثيرة، وكانت من دون شكّ ستغيّر له رأيه في مسألة السياحة.
لا تهدأ السيارات عن الذهاب والمجيء، لا تكفّ عن المرور يميناً ويساراً، ولو كان الأمر بيد سائقها لكان وضع أجنحة على أبوابها وطار عالياً. في شوارع أخرى ليست «كيوت» (وهي كثيرة وهي ما يميّز البلد الذي أتى إليه سائحاً) سيكون ذلك السائح على موعدٍ مع لغةٍ ليست «متفاهمة» و«متناغمة» بل أقرب إلى مونولوغ ساخط، زاخر بالشتائم، والوجوه حمراء تلقي مونولوغاتها بنبرة عالية، وكأنها تعترف بأنها جاهزة لخوض جولة جديدة من الحرب الأهلية. لا دخل لطبائع «جوهرية» ومزايا حضارية ثابتة هنا، الاهتراء سابق على اللغة والوقوع في النتوءات سهل، لذلك عندما تشتغل إشارة المرور، قد يتحوّل ذلك الشارع «الكيوت» إلى محل كبير للخردوات.
تغدو الطريق استعارة عن المصير إذاً. السيارات كثيرة والشوارع ضيّقة. يمكن فهم هذه الزحمة على أنها نتيجة الإسراع في إنهاء الأمور العالقة، أو أنها واحدنا العالق في هذا الاهتراء الذي يستحيل الانفكاك عنه. يبقى أنه وسط هذه الزحمة هي الأشياء التي تتحدّث بلساننا مهما حاولنا الارتجال من حينٍ إلى آخر. العالق في وسط الزحمة عاجز عن أن يكون سائحاً، قد يذعن لأحلام يقظته ويحلم بالطيران، وقد يخبرنا عن الزحمة وعن الطريق في هذا العدد، كما حدث.