strong>أرنست خوريردّ الأتراك، ولو رمزياً وسياسياً يومي الجمعة والسبت الماضيين، المعروف الذي قدّمه إليهم اليونانيون عام 1999، عندما أعربوا عن تضامنهم الكامل، واستعدادهم لتقديم أيّ مساعدة ممكنة لإنقاذ اليونان من الانهيار المالي التام. وكانّ رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، عندما زار أثينا في اليومين الماضيين، قد قدّم الشكر للمساعدة الكبيرة التي قدمتها أثينا إلى الأتراك في 1999، حين ضربهم الزلزال المدمّر الشهير. في ذلك الزمن، عُرفَت المساعدة اليونانية بـ«دبلوماسية الكوارث»، التي عَنونَت المصالحة التاريخية بين البلدين العدوّين منذ فجر التاريخ الحديث.
وقبل يومين، دشّن أردوغان «دبلوماسية الأزمة الاقتصادية»، حين حلّ في أثينا ليومين، وأعرب عن ثقته بأنّ عام 2010 سيسطّره التاريخ على قاعدة أنه عام «يمكن أن نثبت فيه نيتنا السياسية لنتحول من جارين إلى شريكين». شريكان بات لهما مجلس دائم مربوط برئاستي الحكومتين والوزارات المعنية، يُعنى بتنسيق العلاقات والخلافات بين البلدين، وينظّم خصوصاً القضايا المتمحورة حول أزمة المسألة القبرصية، وتنازع السيادة على جزر بحر إيجه، إضافةً إلى الاقتصاد وقضايا الهجرة...
وإلى جانب هذا المجلس المشترك، اتفق أردوغان مع نظيره اليوناني جورج باباندريو على إنشاء مجلس عسكري للتنسيق بين وزارتَي دفاع البلدين، مهمّته التشاور بين جيشي البلدين بشأن تفاصيل الطلعات الجوية التي تنوي مقاتلاتهما تنفيذها فوق بحر إيجه، لإزالة فتيل التوتر الدائم بينهما، وهو ما سبّب في الأسابيع القليلة الماضية، توتراً غير مسبوق منذ 1999، عندما قطعت طائرات عسكرية يونانية طريق نظيرتها التركية فوق بعض الجزر المتنازع على سيادتها في بحر إيجه.
ورأت صحف تركية وأجنبية أنّ زيارة أردوغان أشبه بردّ المعروف اليوناني، لأنّ الرجل لم يستغلّ الأزمة المالية اليونانية لابتزاز أثينا بشأن القضايا الخلافية، بل على العكس، اعترف بالمساعدة اليونانية لبلاده عام 1999، وبأنّ أنقرة تعرف جيداً معنى الأزمات الاقتصادية التي كادت تسبب الإفلاس التركي الكامل في 2001.
لكن لا شيء يمنع أن تكون الأزمة المالية اليونانية الحالية مناسبة مهمّة لتحسين العلاقات بين البلدين، لكون زيارة أردوغان «الثورية» (على حد وصف وزير خارجيته أحمد داوود أوغلو لها) إلى أثينا، استفادت من واقع أنّ أحد الشروط التي وضعها الأوروبيون لتقديم مساعداتهم لليونانيين، هو خفض هذه الدولة لموازنتها العسكرية البالغة 2.8 في المئة من ناتجها الوطني. خفض مناسب في ظل وجود اتجاهات لفعل الأمر نفسه في تركيا، وهو ما يُعدّ المفتاح الأهمّ في تحسين العلاقات بين البلدين، بما أنّ كل ما يمتّ بصِلة إلى قاموس المصطلحات العسكرية، بقي الكلمة السحرية بين أثينا وأنقرة.
ومن إشارات عدم رغبة تركيا في استغلال الأزمة اليونانية، مبادرتها، على لسان وزيرها المكلف متابعة العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي إيغمن باغيش، إلى إعلان استعدادها لخفض موازنتها العسكرية.
ومن الأمور التي قد تؤدّي إلى تخفيف حدة التوتر بين الدولتين، هو ما أظهرته أخيراً دراسات تفيد بأنّ كمية النفط الموجود في مياه بحر إيجه ضئيلة وكلفتها كبيرة جداً، بالتالي فإنّ الصراع التركي ـــــ اليوناني على هذه الجزر، فَقَد شقّه المصلحي النفعي.
وأبت القيادة اليونانية «الاشتراكية» تمرير زيارة أردوغان من دون إرسال إشارات حسن نية؛ على سبيل المثال، أمَر باباندريو بتسريع بناء مسجد أثينا المنتظر افتتاحه، في حي «إليونا»، نهاية العام الجاري، مُقاوِماً بذلك معارضة اليمين القومي، والكنيسة الأرثوذكسية. أما في ما يتعلق بـ «الصفعة» التي تلقّتها مفاوضات توحيد الجزيرة القبرصية، مع وصول القومي درويش إروغلو إلى الحكم في الشق التركي الشمالي من الجزيرة، فلا بدّ أنّ القضية نالت حصة الأسد من مباحثات أردوغان وباباندريو، لكنّ الظاهر أنها من نوع المواضيع التي يُحَبَّذ إبقاؤها في الغرف المغلقة، كي تأتي المفاوضات بنتيجة، عادةً ما يكون الإعلام عامل فشل فيها، على ما تظهره التجارب التاريخية.