الحروب المستقبليّة لن تندلع بسبب الأطماع السياسيّة، بل بسبب الأطماع المائيّة. مقولة كثر تردّدها في السنوات القليلة الماضية، وتجد مبرّرها في الأرقام المتوالية التي تظهر مدى النقص الشديد في المياه الذي تعاني منه معظم دول العالم. وتزداد خطورة تحوّل التحذيرات من «حروب المياه» إلى أمر واقعي وحتمي، مع عودة السجال في العديد من الدول حول حصص توزيع المياه، ولعل آخرها الخلاف القائم حالياً بين دول حوض النيل. ووسط الخشية من ازدياد بؤر التوتر المرتبطة بالسيطرة على المياه، تمعن الدول المتطورة في استهلاك مياه الدول النامية عبر المواد والسلع التي تستوردها، مستغلةً حاجة هذه الدول إلى تصدير منتجاتها وسياساتها المائية الخاطئة
جمانة فرحات
«إذا غابت نقطة المياه ولقمة العيش، فستكون هذه قضية سياسية بالطبع». عبارة لخّص فيها الخبير البيئي، إسماعيل سراج الدين، التداعيات المتوقعة للنقص الحاد في المياه الذي تواجهه العديد من الدول، وتحديداً الدول النامية.
وتعاني منطقة الشرق الأوسط عموماً والدول العربية خصوصاً، من عجز مطّرد في تلبية احتياجاتها من المياه، وخصوصاً أن العديد منها يقع في مناطق صحراوية، وبلغت المياه الجوفية فيها منذ سنوات حالة حرجة.
ويحصل المواطن في الدول العربية على ألف متر مكعب فقط من المياه في المتوسط سنوياً، وهو أقلّ سبع مرات عن المعدل العالمي، وسط توقعات بانخفاض هذه النسبة إلى 460 متراً نتيجةً لتداعيات التغير المناخي ومعدلات السكان المرتفعة.
ويفاقم من حجم المشكلة في العالم العربي، غياب الشفافية في المعلومات. وفي السياق، حذّر الخبير لدى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، حسني الخردجي، من أن «الدول العربيّة لا تكشف معلومات كافية عن المياه لديها لخوفها من أن تؤدي تلك الشفافية إلى قلق عام واضطراب لا لزوم لهما».
ولفت الخردجي إلى أهمية مشاركة الجمهور بالمعلومات المتوافرة، لكنه ربط بين حصول هذا التطور والديموقراطية في البلدان العربية، قائلاً «لا تتوقّعوا مساءلة من دون ديموقراطية حقيقية وانتخابات حرة».
ويستتبع النقص الحاد في المياه خلافات حدودية، تزداد خطورتها مع قابلية البعض منها للتحول فجأةً إلى نزاعات مسلحة، وخصوصاً أن تقديرات عام 2007 تشير إلى أن 15 في المئة من الدول تتلقى ما لا يقل عن 50 في المئة من مياهها من دول أخرى، فيما اثنان من أصل ثلاثة من الأنهار الكبرى أو الآبار الجوفية يجري تقاسمهما بين دول عدة.
ومن أبرز هذه المناطق الساخنة، يبرز الخلاف التركي السوري والعراقي على مياه نهري دجلة والفرات، ولا سيما بعد الجفاف الشديد الذي عانى منه العراق خلال العام الماضي. كذلك، يبرز الخلاف الإيراني العراقي حول شط العرب.
والمياه لطالما كانت دافعاً رئيسياً لإسرائيل لاحتلال مناطق استراتيجية في عدد من الدول العربية، وتحديداً في لبنان وسوريا. كما كانت إسرائيل نفسها سبباً لإفشال المؤتمر اليورو ـــــ متوسطي الرابع حول المياه الذي عقد قبل أيام في برشلونة بعد الخلاف بين إسرائيل والدول العربية، بشأن الإشارة إلى ضرورة تذليل الأسباب العميقة للصعوبات المائية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أما أفريقيا، فتشهد منذ أسابيع خلافات حادة بين دول حوض النيل العشر بشأن بنود الاتفاقية الإطارية التي تسعى الدول إلى توقيعها، بسبب تحفّظات دول المصبّ المتمثّلة في مصر والسودان. ويحاول كلا البلدين الحفاظ على اتفاق موقّع بينهما في 1959، خصّص 55،5 مليار متر مكعب من المياه لمصر في العام، بما يعادل 87 في المئة من منسوب النيل و18،5 مليار متر مكعب للسودان. فيما تطالب دول منابع النيل السبع بتقاسم أكثر عدلاً لحصص النهر.
كذلك يسبّب نهر الكيتو، الذي يمرّ في بوتسوانا وناميبيا وأنغولا توتراً في العلاقات بين هذه الدول. أما بحيرة تشاد، التي يعتمد عليها قرابة الثلاثين مليون أفريقي، فحذّّرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة «فاو» من تسبّبها بكارثة بسبب التناقص المتسارع في منسوبها.
ودفع النقص الحاد بعض الدول الأفريقية، ومنها جنوب أفريقيا التي تواجه أسوأ جفاف في 150 عاماً، إلى اللجوء إلى تقنية تحلية مياه البحر، على الرغم من تكلفتها المرتفعة.
وكما في أفريقيا، يعدّ توزيع حصص المياه من المسائل المعقدة في آسيا الوسطى، أكثر المناطق جفافاً في العالم. ويتركز ما يقدر بتسعين في المئة من مصادر المياه في كلٍ من قرغيزستان وطاجيكستان، إذ ينبع نهرا سيرداريا وآموداريا من أراضيهما، على عكس أوزبكستان وكازاخستان اللتين تحوزان أقل من نصف احتياجاتهما المائية على أراضيهما.
وأسهم سقوط الاتحاد السوفياتي في اشتعال الخلافات، وخصوصاً بعد اقترانها بخلافات حدودية وخلافات بشأن الطاقة، وسط عجز الاتفاقيات الموقّعة بين هذه البلدان عن تأمين التزام بتطبيقها.
ولم يكف الدول النامية ما تعانيه من شح في مواردها المائية، ليكشف تقرير أصدرته ثلاث مؤسسات هندسية بريطانية حجم مساهمة الدول «المتقدّمة» في أزمة المياه في الدول النامية.
وأوضح التقرير أن كوباً من القهوة في أوروبا يتطلب إنتاجه مئة وأربعين ليتراً من الماء في الدول النامية، فيما يكلف إنتاج كوب من البيرة 74 ليتراً من الماء. وتبلغ التكلفة المائية للقميص القطني الواحد ألفي ليتر. أما الكيلوغرام الواحد من لحم البقر فيكلف خمسة عشر ألف ليتر ماء.
وفي ظل حاجة الدول المتقدمة إلى المحافظة على وتيرة استيرادها، التي باتت كلفتها تعدّ منخفضة، مقارنة بالكلفة الحقيقية المترتبة على الدول النامية وتحديداً لجهة استنزاف المياه، دعا التقرير الدول الغنية إلى مساعدة المزارعين في الدول النامية على الاقتصاد في استخدام المياه، أملاً في المحافظة على استغلال مواردهم المائية على المدى البعيد.
وما يزيد من مخاطر ندرة المياه، الهجرة القسرية للناس بحثاً عن الماء. وكشف تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية «يونسكو» أن أكثر من 100 ألف شخص في شمال العراق أجبروا على إخلاء منازلهم منذ أن أخذت إمدادات المياه تتضاءل في عام 2005، وسط غياب خطط واضحة للتعامل مع الأزمة التي باتت تهدد بنزاعات ليس فقط بين الدول، بل أيضاً داخل الدولة الواحدة كما هي حال السودان وتشاد وإثيوبيا.


المياه القاتلة

أصدرت منظمة الأمم المتحدة للبيئة «يونيب» تقريراً، الشهر الماضي، يؤكد أن ضحايا المياه الآسنة يفوقون ضحايا الحروب وأعمال العنف الأخرى.
ووفقاً للتقرير، فإن أكثر من نصف سكان العالم النامي لا يحصلون على خدمات الصرف الصحي الكافية، في حين أن ما لا يقل عن 1.8 مليون طفل تحت سن الخامسة يموتون سنوياً بسبب الأمراض المرتبطة بالمياه.
ورأى التقرير أن استمرار النمو السكاني والتوسع العمراني وتوسيع وتكثيف إنتاج الأغذية، وضع ضغوطاً متزايدة على موارد المياه، مسبّباً زيادة في التصريف غير المنظم وغير القانوني من المياه الملوثة داخل الحدود الوطنية وخارجها.
ولفت مدير البرنامح، أكيم شتاينر، إلى أنه إذا كان العالم يريد البقاء على قيد الحياة في كوكب يعيش عليه 6 مليارات نسمة، ويتوقع أن يتخطّى العدد 9 مليارات نسمة بحلول عام 2050، فإننا بحاجة إلى أن نصبح أكثر ذكاءً في طريقة إدارة مياه الصرف الصحي.