ببطء، لكن بخطى ثابتة، يدخل الإعلام الأوروبي عموماً، والفرنسي خصوصاً، وراء ستارة التعتيم على جرائم الحرب الإسرائيلية على غزة
باريس ــ بسّام الطيارة
أسهم تقرير غولدستون، على نحو ما، في إعطاء «مسحة قانونية» تبرر الخروج عن المألوف في تعاطي الإعلام الأوروبي مع «ما تفعله إسرائيل»، وبدأ يحرك «فضول المحققين الصحافيين». كذلك إن إدامة الحصار على أهالي غزة الموجودين، في ما وصفه نيكولا ساركوزي بـ«أكبر سجن في الهواء الطلق» في إطار بهلوانية كلامية لا تقدم ولا تؤخر ولا تؤثر بما يفعله سفيره في القدس كريستوف بيغو، دفعت عدداً من وسائل الإعلام إلى الخروج عن صمتها.
«لوموند»، «صحيفة الطليعة» كما كان يصفها شباب ثورة أيار ١٩٦٨، حاربها مناصرو إسرائيل سنوات عديدة، فقط لأنها «كانت تنقل صورة محايدة» بعيداً عن «النضالية» التي كانت صبغة الصحف الأخرى، إلى أن «دخلت في صف الإعلام النظيف» في عهدتي جان ماري كولومباني وألان مينك.
لكن الصحيفة بدأت تعود رويداً رويداً إلى «حكّ الحقيقة»، وآخر تحقيقاتها عن «أساليب الجيش الإسرائيلي خلال العدوان» ذهب في هذا الاتجاه. مراسل «لوموند» في القدس المحتلة لم يعتمد على التحقيقات الدولية لكتابة صفحة كاملة عن الممارسات الصلفة للجنود الإسرائيليين، بل ذهب مباشرة لتقصيها من أفواه بعضهم، واعتمد على عمل بعض المؤسسات الإعلامية والمنظمات غير الحكومية التي مُنعت من نشر نتائج عملها. وشدد التحقيق على أن «أوامر الضباط كانت مناقضة لعقيدة الجيش السائدة»، وأهمها ما يعرف بـ«امتسيائيم في كافانوت»، التي تعني حرفياً «الوسائل والنيات».
وينقل تحقيق لوموند عن صحيفة «يديعوت أحرونوت» إشارتها إلى أن أحد الضباط «اعترف» بأنّ هذه الضوابط قد جرى التخلي عنها خلال حرب غزة، مبرراً ذلك بأنّ ما يصلح لعملية توقيف في الضفة الغربية لا يصلح في حرب مثل الحرب التي شنتها إسرائيل على القطاع.
ونقل التحقيق عن الضابط قوله «إن الجيش الإسرائيلي خرج محروقاً من حرب لبنان الثانية عام ٢٠٠٦ بسبب بعض التعابير غير المناسبة للوضع على الأرض» وأن الحرب في غزة «لم تكن عملية كلاسيكية ضد إرهابيين».
إلا أن عدداً من الحقوقيين يقول إن «إطار الوسائل والنيات المزدوج الأضلاع» هو رادع ضد القتل، ومجرد إسقاط أحد هذه الأضلاع يُعَدّ «أمراً بالقتل».
ويتبين من التحقيق الفرنسي، ومن تحقيقات نشرت على مواقع على شبكة الإنترنت، أن «تحقيق الصحيفة الإسرائيلية لم ينشر»، وقد سُرّب تسريباً لأنه «يناقض التحقيقات الرسمية» التي أرسلت إلى بان كي مون رداً على تقرير غولدستون، والتي وصفت ما حدث على ضخامته بأنه «شوائب فردية» لا يمكن تجنبها في وجه عدو يلجأ دائماً إلى الاختباء في المناطق السكنية، وهي الحجة التي يسوّقها الإعلام الإسرائيلي لتبرير مقتل ما يزيد على ١٣٨٥ فلسطينياً، معظمهم مدنيون، في مقابل ١٣ إسرائيلياً بينهم فقط ثلاثة مدنيين.
ويقول بعض المتابعين لهذه التحقيقات، وخصوصاً جمعية «بريكينغ ذا سايلانس» (كسر الصمت) إن «الأمر اليومي كان: في حال الشك، اقتل» أو أن «إطلاق النار في النزاعات غير مقيد»، حسب أكثر من تصريح لجنود قدموا تلقائياً شهاداتهم، وهو ما وصفته قيادة الأركان الإسرائيلية بـ«حملة قدح وذم منظمة على إسرائيل».
وترى المنظمات الإسرائيلية «تغيير قواعد الاشتباك» أنها «خرق للقانون». ونُقل عن ضابط شرطة كتم هويته قوله إن «الاعتقاد السائد هنا هو أن حماس لا تحترم القواعد» لأن مقاتليها لا يرتدون اللباس العسكري ولا يحملون سلاحاً ظاهراً. ويتابع: «وبالتالي قررنا أن لا نحترم القواعد». وشدد على أنه «كان مطلوباً منا أن نرفع العدد» (عدد الضحايا). وأضاف: «إذا عددناهم جميعاً إرهابيين، وجب قتلهم، بدءاً من وزير الداخلية سعيد صيام، إلى أبسط ناشط في مؤسسة إنسانية». وأشار إلى أن «حماية أرواح جنودنا كانت أولوية»، وكان لها دور في رفع عدد القتلى في غزة.
وشرح الضابط «تقنية صفر مخاطرة» لتأمين محيط القتال: يجري أولاً رمي إنذارات عبر الطيران بضرورة إخلاء المنطقة خلال فترة معينة، وتبدأ بعد نهاية فترة الإنذار «مراقبة المنطقة» بدقة بحثاً عن أي شخص يمكن أن يكون فيها. وفسّر «سهولة الاستنتاج» بأنه إذا «وجد شخص ذكر ليس طفلاً ولا امرأة ولا عجوز، فهو إرهابي» تتكفل الطائرات من دون طيار بقصف المنطقة التي هو فيها، قبل أن تتوجه وحدة استخبارات للتأكد من «هويته لتبرير مقتله».