طبيعة ساحرة صيفاً وشتاءً... ومقوّمات ترفيه نموذجيّةكيتزبول ــ حسام كنفاني
أثناء المغادرة من باريس إلى ميونيخ، تلمس مباشرةً طبيعة الاتحاد الأوروبي، وكيف يطبّق مفهوم الاتحاد بين 27 دولة لتصبح في طبيعة الحال دولة واحدة لا أثر لأي مظهر من المظاهر الحدودية فيها. دولة تتنقّل بين أرجائها حرّاً بمجرد حصولك على تأشيرة «شينغن» من إحداها، حتى وإن لم تزُر الدولة التي أصدرت لك التأشيرة.
لمس حقيقة الاتحاد يبدأ في المطار. وإذا كنت معتاداً السفر داخل «العالم العربي» أو منه إلى أي دولة أخرى، فلا بد أنك تعرف أن ختم جواز السفر لدى موظف الأمن في الدخول والخروج واجب. لذا فإنك بالضرورة سوف تبحث أثناء مغادرتك مطار شارل ديغول إلى ميونيخ عن هذا الموظف. لكن من المؤكد أنك لن تجده، لا في مطار شارل ديغول الفرنسي ولا مطار ميونيخ الألماني، حيث تغادر الطائرة إلى مكان تسلّم الحقائب ثم إلى الخارج من دون أي سؤال عن الزيارة أو سببها، أو أي إجراء إداري معتاد في بلادنا.
من ميونيخ إلى منطقة كيتزبول النمساوية تستغرق الرحلة ساعة بالسيارة. وأيضاً الانتقال بين بلد أوروبي وآخر لا يحتاج إلى أيّ من التعقيدات الحدودية البريّة المتعارف عليها عربيّاً؛ لا انتظار على الحدود ولا تفتيش للأمتعة ولا طوابير أمام مكاتب الأمن العام وغيره ولا رشى توزّع هنا أو هناك. مجرّد انتقال سلس على طرق ملساء. الفرق الوحيد أنك يمكن أن تلاحظ معالم ما قبل الوحدة الأوروبية. فعلى الطريق بين ألمانيا والنمسا يمكن مشاهدة ما كان يُعرف بالنقطة الحدودية والساحة الواسعة لانتظار الشاحنات. ساحة تحوّلت الآن إلى مكان استراحة للمتنقّلين داخل «الدولة الأوروبية الواحدة».
المعالم، التي من الممكن أن تصبح مع الوقت تاريخية، بالكاد تلحظها أثناء تنقّل نظرك بين مشاهد الغابات التي يلفّها الضباب والمنتشرة على طول الطريق السريع بين ألمانيا والنمسا. غابات تزيّن مروجاً شاسعة من الحقول الخضراء تتوسّطها بعض البيوت التقليدية، التي تكتشف أنها مزارع ريفية بعد رؤية قطعان البقر والخيول.
الانتقال إلى الطريق الفرعية المؤدية إلى كيتزبول ينقل الزائر إلى عالم آخر. عالم من الجبال والأنهار والبحيرات، تتخلّلها أيضاً مزارع خضراء وبيوت تقليدية. لا مكان للأبراج أو البنايات الشاهقة. منطقة ريف بامتياز، لكن من الواضح أنه ريف سياحي مقصود من كل أرجاء أوروبا، ولا سيما أن عشرات الكرافانات تجدها متوزّعة في أماكن مخصصة للتخييم.
الدخول إلى كيتزبول يعطي انطباع القرية النموذجية. تستغرب بدايةً المكان، ولا سيما أنك لا تلمح أثراً للمدنية. مجرد منازل تقليدية في مساحة محاصرة بجبال خضراء وجرداء من كل الاتجاهات. لكن الاقتراب من ساحة القرية يفضح حقيقة هذه المنطقة. وفود لا تتوقف من السيّاح تجوب القرية ذهاباً وإياباً ليل نهار.
استقرارك في «القرية» لبرهة يكشف المزيد عن طبيعتها؛ هي مقصد سياحي أساسي للأوروبيين وبعض الخليجيين، ولا سيما في فصل الشتاء، حين تغطّي الثلوج القمم المحيطة بالمنطقة المعروفة بأنها المكان المفضّل لهواة رياضة التزلّج. ولهذه الغاية فقد زوّدت بلدية القرية الجبال بأكثر من 36 محطة للمصاعد الإلكترونية (تلفريك) تربط المنطقة بالقمم الجبلية والقمم بعضها ببعض، حتى إنها تضمّ «مصعداً» يعدّ الأعلى في العالم، إذ يبلغ ارتفاع مقصوراته في مكان معيّن 500 متر عن الأرض، وهو مخصّص للتنقّل بين القمم.
الطابع السياحي للقرية يظهر من الكمّ الكبير للفنادق والمطاعم الذي تحتوية. فقرية لا تزيد مساحتها عن 50 كيلومتراً مربعاً، من ضمنها الجبال، يمكن أن تجد أكثر من 50 فندقاً و100 مطعم و20 ملهىً ليلياً، موزّعة توزيعاً متناسقاً وملوّناً. فلكلّ مبنى لون مختلف عن الآخر يضفي طابعاً جماليّاً إضافياً على المكان، يضاف إلى زينة الأزهار التي تتزيّن بها الشرفات.
وللترفيه مكان أيضاً في كيتزبول. ترفيه يُلمس من خلال احتواء المكان على كازينو فخم يقصده السيّاح من داخل القرية وخارجها، إضافةً إلى متاجر لأفخر الأسماء التجارية العالمية، التي تستغرب للوهلة الأولى وجودها في هذا المكان النائي.
لكن اللافت في المشاهد اليوم هو كمّ المسنّين ومتوسطي العمر الذين يرتادون المكان، الذي تكتشف أنه مقصد لتقاعد العديد من النمساويّين والألمان وآخرين من جنسيات أوروبية مختلفة، يستفيدون من جمال الطبيعة وهدوئها. لكن «جنّة التقاعد» هذه باهظة، وشراء أي منزل فيها يكلّف ثروة طائلة. أمر يمكن تلمّسه من خلال المكاتب العقارية الكثيرة المنتشرة في القرية الصغيرة. منازل تبدأ أسعارها من 850 ألف يورو (مليون و250 ألف دولار تقريباً) لتصل إلى مليونين ونصف مليون يورو (ثلاثة ملايين و700 ألف دولار تقريباً)، كل ذلك يتوقّف على مساحة المنزل والأراضي الملحقة به.
أما أهل القرية، الذين يقضون 10 أشهر في خدمة السيّاح، فهم في بحث دائم عن الشمس والبحر. لا سياحة في المكان من تشرين الأول إلى كانون الأول. فترة فاصلة بين نهاية الصيف وبداية الشتاء وموسم التزلج، كافية للعديد من العاملين النمساويين في القرية للبحث عن سياحتهم الخاصة. سياحة هدفها المناطق الحارة، حيث الشمس والمياه، بعد تخمة البرد التي يعيشونها. الخليج أو مصر هي المقصد العربي الأبرز لهؤلاء، إضافةً إلى الدول الأوروبية المتوسطيّة. كثيرون لم يسمعوا ببلد اسمه لبنان أو لم يفكروا في زيارته. وحين تعرض فكرة الزيارة، تكون الإجابة «إذا كان هناك بحر، فلا مانع من الزيارة».


«غزال على التلة»كل سكان المدينة يعرفون القصة، واعتادوا تردادها أمام السيّاح الذين تثير صور الغزلان وتماثيلها حشريتهم. الجواب أتى من أحد الأدلّاء السياحيين على شكل قصة: «يحكى أن أحد الأمراء القدامى كان يجول بين التلال المشرفة على هذه المنطقة.
وفجأةً لمح غزالاً صغيراً على إحدى هذه التلال، فاستوقفه المشهد وقرّر بناء منزل في مكان وقوف الغزال. ومنه اتّخذت المنطقة اسمها». فكيتزبول اسم مركّب من «كيتزل» و«بول»، الأول يحمل معنى غزال صغير والثاني يعني التلة، وترجمة الاسم باللغة الألمانية المحكيّة في تلك المنطقة تعني «غزال على التلّة».