ثمة ما يقلق سانت بطرسبرغ. هذه المدينة التي اعتادت حضارتها القديمة، تواجه «ناطحة سحاب» اليوم، قد تقضي على تاريخ «فينيسيا الشمال»، إلّا أن الحسم في مدى فائدة البرج قد يكون مبكراً
ربى أبو عمو
تتجسّد أوروبا في سانت بطرسبرغ. أوروبا بنفسٍ روسي. مدينة خُلقت بملعقة من ذهب حين تجمعت الحضارات المختلفة داخلها، فكانت حضارتها الخاصة. يغلب عليها القدم. يسهل توجيه الأصابع إلى آثار تعود سنوات وسنوات إلى الوراء. وكأن مدير متحف «أرميتاج» الضخم في «ليننغراد» سابقاً، ميخائيل بيوتروفسكي، استشعر خطراً ما يحدق بمدينته. قال «نريد أن تبقى مدينتنا نافذة تطل على العالم وبالطبع أوروبا، لكننا لا نريد أن نصبح جزءاً من الغرب». واليوم، تمثّل عبارته هذه عمق الإشكالية الحضارية والسياسية التي تواجهها سانت بطرسبرغ: ناطحة سحاب.
من المبكر الحسم في الموضوع. أهو خطر أم ذو فائدة؟ إلا أن خصوصية مولودة القيصر بطرس الأكبر تواجه سيفاً ذا حدين؛ التعرية أو الكساء بلباس لم تعتده. تقبع الإشكالية في قرار شركة «غازبروم» الروسية، أكبر منتجة للغاز في العالم، الانتقال إلى سانت بطرسبرغ، مرقد النخبة الروسية، والموطن الأصلي للرئيس ديمتري مدفيديف، ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين، لتقطن في ناطحة سحاب يفترض أن يبلغ ارتفاعها بحسب الخرائط الهندسية 400 متر وتدعى «أوختا سنتر»، الأمر الذي صدّقت عليه سلطات المدينة.
غالبية سكان المدينة تعارض المشروع. يعتريهم الخوف من فقدان الاستمتاع برؤية التاريخ والحضارة. رغم أنهم قد يدخلون إلى أبصارهم عنصراً جمالياً إضافياً.
يحظر القانون الروسي تشييد أبنية يزيد ارتفاعها على 100 متر في سانت بطرسبرغ
عارضت «جمعية عموم روسيا لحماية المعالم الأثرية للتاريخ والثقافة» بناء ناطحة السحاب، تخالف الوجه المعماري للمدينة، ولا تحترم القوانين الروسية التي تحظر تشييد أبنية يزيد ارتفاعها على 100 متر في تلك المنطقة. وشاطرتها هذا الموقف وزارة الثقافة واتحاد روسيا للمعماريين والكثير من مؤسسات البلاد.
أما منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونيسكو»، فلجأت إلى التهديد المبطن الذي قد يضع «فينيسيا الشمال» على اللائحة السوداء، محذرة من أن بناء البرج «يمكن أن يضع المدينة في خانة مواقع التراث العالمي المعرضة للخطر عام 2010».
في مقابل هذا النقد المفرط، حاول رئيس مهندسي المشروع، فيليب نيكاندروف، تحقيق استفادة إيجابية من موقف «اليونيسكو»، قائلاً إنه «لا ينبغي لهذه المنظمة أن تحمي فقط التراث العالمي، لكنها يجب أن تكون أيضاً أكثر تقبّلاً لتراث جديد، حتى يصبح أوختا رمزاً جديداً للمدينة والتراث المعماري العالمي».
يسهب نيكاندروف في شرح فوائد المشروع وميزاته: «أولاً، سيتحول أوختا إلى مركز لجذب المستثمرين ورجال الأعمال في المدينة، عدا تأمين أكثر من 10000 وظيفة جديدة». ويضيف «سيسهم المبنى في جذب السيّاح في جميع أنحاء العالم من خلال الطابق الـ67، الذي سيتيح للعالم رؤية المدينة بأكملها. نحو 2.5 مليون سائح سيزورون المكان كلّ عام. إلّا أن النسبة لن تبلغ عدد سيّاح برج إيفيل، الذي يحصد 7 ملايين سائح سنوياً...».
وما يثير الاستغراب هو المواقف المتناقضة التي تطلقها محطات التلفزة الروسية المملوكة من جانب الدولة. على سبيل المثال، بثّت القناة الروسية الأولى تقريراً لاذعاً قالت فيه إن البرج «نمط معماري بمثابة خليط بين البندقية وسنغافورة». وأشارت إلى عدم وجود إجماع بين الحكومة الفدرالية، و“غازبروم”، وحاكمة المدينة فالينتينا ماتفيانكو. ولفت التقرير إلى عدم رضى عن الحكومة الروسية على اعتبار أن «المشروع يحتاج إلى مزيد من التقويم من جانب الحكومة». في المقابل، بدت الـ «أن تي في» مدافعة عن «أوختا».
حاولت ماتفيانكو التخفيف من وطأة البرج. فرغم موافقتها على البناء، لمّحت إلى أن القرار لا يزال قيد الدرس، وخصوصاً أن المنتقدين يستخدمون القانون في رفضهم لمشروع «أوختا»، لا العاطفة فقط.
لا شك أن روح سانت بطرسبرغ تواجه روحاً جديدة أكثر مواكبة للعصر. كأن هذه المدينة تشهد صراع جيلين، وتخشى أن يشوّه جيل «ناطحات السحاب» رونقها القديم.
يبدو أن الـ «أن تي في» تفهّمت رفض المشروع من الناحية النفسية. فشبّهت منتقديها بالمنتقدين السابقين لكاتدرائية القديس اسحق، التي كان بناؤها مثيراً للجدل. وسلطت الضوء على عمق تفكير السلطة الروسية الجديد: الفائدة البراغماتية للمشروع.
من هنا، كان سهلاً على نائب مدير «أوختا»، فلاديمير غرونسكي، أن يلجأ إلى الاستهزاء، كأنه واثق بحتمية تنفيذ المشروع: «الناس يسمّون ناطحة السحاب كوز ذرة. لا أرى أي شيء سيئاً في هذا الوصف. هو نتاج الطبيعة المثالية».