نيويورك ــ نزار عبودخيوط كثيرة متشابكة تكاد تتقطّع في يد الإدارة الأميركيّة الجديدة، وهي تحاول تسريحها وإعادة لفّها في مكانها الصحيح. لقد ورثت إدارة باراك أوباما تركة ثقيلة من عهد اشتهر بإنتاج الأعداء والأسلحة والألغام الزمنية والأزمات الاقتصادية، من السودان وإيران وصولاً إلى كوريا الشمالية، التي مثلت تجربتها الصاروخية أكبر تلك التحديات حتى الآن. ويمكن من خلال أسلوب معالجتها الاستدلال على كيفية معالجة الأزمات الدولية الأخرى، وفي المقدّمة أزمة برنامج إيران النووي.
تقع كوريا الشمالية عند خاصرة المصالح الأميركية في شرق آسيا. إنها توأم كوريا الجنوبية وجارة اليابان، مركزان صناعيان هائلان يُعدّان امتداداً للنظام الأميركي الأوسع، ويخضعان لحماية البنتاغون. وهي أيضاً مطلّة على القواعد الأميركية المنتشرة في حوض المحيط الهادئ، ويقع تحت أنظارها نشاط الأسطول الأميركي السابع. كما أنّها ليست بعيدة تماماً عن هاواي، الولاية الأميركية الرومانسية، ولا عن آلاسكا، أكثر الولايات أهمية من الناحية الاستراتيجية.
لذا فان التنازل في كوريا الشمالية، وغض الطرف عن صاروخها، سواء كان قادراً على إيصال قمر صناعي أو أحد الرؤوس النووية الصغيرة، سيفسر ضعفاً من دون أدنى شك. وهذا ما بدأ اليابانيون يشكون منه، وهم يراقبون الثقة الكورية الشمالية المتنامية، ويخشون أن يكون قد أصاب قدرة الدبلوماسية الأميركية ما أصاب قدرة الردع الغربية عامة. ويتساءل محلل ياباني في الأمم المتحدة «إذا كانت طوكيو معتمدة نووياً ودبلوماسياً على قدرات الولايات المتحدة، فإننا لم نشاهد حتى الآن ما يجعل الياباني واثقاً بألا تتكرر تجربتا هيروشيما وناغازاكي الأليمتان»
وفي أروقة مجلس الأمن الدولي، لا تزال بعثة الولايات المتحدة برئاسة سوزان رايس تحتفظ بالعديد من الشخصيات الموروثة من عهد جورج بوش. تغير فقط الرأس. إلا أن السفير أليخاندرو وولف، وعلى غير عادته، بات خافت الصوت شديد التهذيب، مراعياً لتوجهات سيدته الجديدة، التي تبدو بدورها متكتمة، فالسياسة الأميركية الجديدة لا تزال في طور التكوين. برز الاختبار الأقسى لدبلوماسيتها مساء الأحد الماضي خلال الجلسة الطارئة لمجلس الأمن بُعيد إطلاق الصاروخ الكوري. ولأن الأمور في مرحلة المصالحات والمهادنات لا بد أن تأتي بالتوافق، فاقتصرت الجلسة على المشاورات. بدت الصين أقوى كثيراً من المعتاد وهي تماحك في تشخيص التجربة الصاروخية الجديدة. وحرصت روسيا على أن تُبقي على «شعرة معاوية» مع واشنطن، من دون أن تتبنى الموقف الصيني الذي يرفض اعتبار التجربة الصاروخية خرقاً للقرار 1718 الصادر عام 2006. واكتفت بالإعراب عن القلق من تصاعد التوتر في شرق آسيا الشمالي.
وهكذا مع فشل الولايات المتحدة وحلفائها في إقناع الكثيرين بأن الأمر ملحّ. راوح النقاش خلال الأيام الثلاثة الماضية مكانه. قلق لا إدانة. وحوار لا مواجهة. الأميركيون وصفوا الخطوة الكورية بـ«العمل الاستفزازي»، الذي يستدعي إصدار قرار يقضي بإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية. أما كوريا الشمالية التي تراجعت عن تعهد بتفكيك برنامجها النووي، فإنما فعلت ذلك جراء نكث واشنطن تعهدها بشطبها من لائحة الدول الراعية للإرهاب. فضلاً عن فرض قيود مالية على ودائعها الضئيلة في الخارج (25 مليون دولار) في ظل وضعها الاقتصادي المتهالك.
ولأن التجارب في ساحة الأمم المتحدة برهنت على أن طول فترة المفاوضات في مجلس الأمن غالباً ما تؤول إلى إضعاف القرارات قبل تحولها إلى مجرد بيان رئاسي أو صحافي، فإن الاختبار الحقيقي سيكون في مدى قدرة واشنطن على الضغط على بيونغ يانغ، إذا كانت تطمح إلى تحويل هذا الضغط الدبلوماسي إلى تنازلات على طاولة المفاوضات السداسية. الضغط الذي ترجوه سيكون من نوع قطع التيار الكهربائي عن كوريا الشمالية، وهي التي تزودها بأكثر من 80 في المئة منه. وهذا أمر مستبعد في الزمن الحالي، ما يضعها في مأزق دبلوماسي.
مأزق يربك المحافظين «القدامى والجدد» في الإدارة الأميركية، الذين يخشون من أن تكون إيران قد قرأت جيداً الضعف الأميركي في مجلس الأمن، وازدادت تصلباً في مواقفها عشية اجتماع مجموعة الست. أمر يثير قشعريرة لدى اللوبي الصهيوني ــــ الأميركي، الذي يشعر بأن الضغوط الاقتصادية لن تحل محل التهديدات العسكرية في المواجهة مع طهران.
لذا تبدو سوزان رايس في وضع لا تُحسد عليه. إنّها تطلب قراراً شديد اللهجة، في الوقت الذي لا تريد فيه فقدان إمكان العودة للحوار على الطاولة السداسية المنسية. مع ذلك يرى آخرون أن هدوء رايس النسبي، وتفضيلها الدبلوماسية الهادئة، يعبّر عن حكمة مطلوبة في المرحلة الدقيقة الحالية. لأن خيار المواجهة ليس مطروحاً مع أحد في زمن الوهن الرأسمالي السائد.