موسكو ـ حبيب فوعانياستقلال كوسوفو رغماً عن روسيا، لم يكن إلّا شرارة أميركية أولى نحو اللعب على وتر إضعاف موسكو. إلا أن الرؤوس الحامية في واشنطن، ذهبت أبعد من ذلك، ووضعت روسيا أمام أمر واقع، حين نالت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس موافقة براغ على نصب محطة رصد رادارية في تشيكيا في إطار منظومة الدرع المضادة للصواريخ في أوروبا الشرقية.
في هذا الوقت، بدأ الأميركيون مناورات عسكرية مع الجورجيّين قرب تبليسي تحت اسم «ردة الفعل الخاطفة»، استمرت طوال شهر تموز، وموّلها البنتاغون. وهي رسالة إلى موسكو، ماهيتها أن جورجيا من الآن فصاعداً منطقة نفوذ أميركية، وواشنطن على استعداد لبذل أقصى الجهود للاحتفاظ بمكاسب «ثورة الورود». باختصار، سقت رايس الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي «حليب السباع».
وساكاشفيلي، الغيور على المصالح الأميركية، والديكتاتور الحريص على الديموقراطية في جورجيا والقوقاز ورابطة الدول المستقلة والعراق، متهور أصلاً. ووفقاً لصحيفة «كولنيرشتات أنتسايغر» الألمانية، هو «يحكم البلاد كلاعب قمار، لا كرجل سياسة».
دبلوماسي روسي ربط لـ«الأخبار» بين تطرّف ساكاشفيلي وأصوله اليهودية. وفيما نفى أي نية له للانتقاص من ديانة الرئيس الجورجي أو النزوع إلى ما يعرف بـ«معاداة السامية»، إلا أنه ذكّر بأن وجود نائب الرئيس الروسي في عام 1993، اليهودي ألكسندر روتسكوي، على رأس معارضي الرئيس بوريس يلتسين، جعل البحث عن حل وسط مستحيلاً بين الاثنين، لينتهي الأمر بقصف البرلمان الروسي.
ساكاشفيلي لا ينكر أصوله اليهودية، بل يستغلها لمصلحته. إذ أقامت تبليسي علاقات تحالف وثيقة مع تل أبيب منذ تنصيبه رئيساً في مطلع عام 2004. ويستغل ذلك أيضاً وزير الدفاع الجورجي اليهودي دافيد كرزاشفيلي، الذي هاجر إلى إسرائيل في عام 1992، ومكث فيها مواطناً إسرائيلياً حتى عودته إلى جورجيا قبل أربعة أعوام.
وعلى أي حال، يؤكد المراقبون الروس أن تل أبيب تلقت منذ شهر ضوءاً أخضر من واشنطن بتكثيف تعاونها العسكري مع تبليسي، الأمر الذي أرادت الدولة العبرية استخدامه لمساومة موسكو على الملف النووي الإيراني.
وفي هذا السياق، زار رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، الجنرال داني أرديتي، موسكو في نهاية تموز الماضي على أمل لقاء نظيره الروسي نيكولاي باتروشيف، للسعي إلى تشديد العقوبات الدولية على طهران في حال رفضها إيقاف تخصيب اليورانيوم، ولجس نبض موسكو ومدى إمكان تغاضيها عن توجيه إسرائيل ضربة إلى الجمهورية الإسلامية.
لكن مصدراً في الخارجية الروسية، رفض ذكر اسمه، استبق زيارة أرديتي بتوجيه انتقادات عنيفة إلى الإدارة الأميركية. وقال إن أساس العلاقات مع الولايات المتحدة على وشك الانهيار؛ وهدد بإيقاف الحوار مع الولايات المتحدة إذا كان الجانب الأميركي يريد «تعليمنا كيف نتصرف؟ ومن يجب أن نصادق؟ وأمام من نغلق الأبواب؟ ومع من ننام؟!».
وتؤكد صحيفة «أرغومينتي نيديلي» الأسبوعية الروسية أن صاحب هذه الانتقادات هو الدبلوماسي المتمرس والمتشدد نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي كيسلياك، الذي عين سفيراً جديداً لروسيا لدى الولايات المتحدة.
كيسلياك هو من استقبل أرديتي بعدما فضّل رئيس مجلس الأمن القومي الروسي الذهاب إلى ريو دي جانيرو لمشاهدة مباريات كرة الطائرة على استقبال الزائر الإسرائيلي.
مهما يكن، فإن الرئيس الجورجي كان يعوّل، على ما يبدو، على نصر خاطف ينسي مواطنيه جنات عدن، التي لم يروها رغم الاستثمارات الأجنبية الموظفة في جورجيا، والتي تبلغ أكثر من ملياري دولار سنوياً. لذا بدأت تبليسي بتسخين النزاع الجورجي ـــــ الأبخازي ـــــ الأوسيتي، والتحرش بسوخومي وتسينخفالي وبقوات حفظ السلام الروسية المشتركة على مدى شهر كامل.
موسكو من ناحيتها كانت على استعداد لمواجهة تبليسي، ولذلك جلبت قواتها الخاصة من مقاطعة بسكوف، التي تبعد 689 كيلومتراً إلى الشمال الغربي عن العاصمة، ونشرتها في جنوب روسيا على مشارف منطقة النزاع لدعم قوات حفظ السلام.
إلّا أن العسكريين الروس، كما صرح جنرال روسي سابق لـ«الأخبار»، كانوا ينتظرون من قيادة أوسيتيا الجنوبية الصمود، ولو لبعض الوقت. وبالفعل ووجهت المدرعات الجورجية في تسينخفالي في البداية بنيران مكثفة من جميع الأسلحة، ما جعلها طعماً للنيران، غير أن الجنود الأوسيتيين سرعان ما غادروا آلياتهم لحماية منازلهم، ما اضطر الروس إلى التدخل.
ويستبعد المراقبون أن تقبل موسكو، التي وعت الدرس الشيشاني جيداً، بالحلول الوسط، ولا سيما على أبواب الألعاب الأولمبية عام 2014. ويبدو أن الكرملين سيصر على إعادة خلط الأوراق في منطقة يراها مجالاً لمصالحه الحيوية.