ربى أبو عموبدأت حرب أوسيتيا فيما كانت الألعاب النارية تشعل سماء بكين خلال افتتاح الأولمبياد. لم تدم طويلاً. أيام أنهت العمليات العسكرية. وما بين التاريخين كان الرئيس الأميركي جورج بوش يشارك لاعبات الكرة الطائرة الأميركيات في أحدى تدريباتهن، فتغمزه إحداهن ليضربها على مؤخرتها.
بوش هو نفسه «بوشي»، كما هتف الحشد الجورجي لدى استقباله في تبيليسي عام 2005.
اليوم تغيرت اللعبة. بات العم سام في «أزمة ثقة». فالعديد من الجورجيين يشعرون بـ«خيانة الديموقراطية الأميركية»، ولا سيما أنه كان من الغباء القول إن بعض الدول الحليفة، الولايات المتحدة وأوكرانيا وحلف الأطلسي على الأقل، كانت على غفلة من توقيت الهجوم الجورجي. فكييف قدّمت 90 دبابة إلى جورجيا، إضافة إلى 10 طائرات حربية، وأربع مروحيات. الحلف من جهته ساعد تبيليسي ببواخر حربية، و300 دبابة، و100 ناقلة حربية، و67 بطارية مدفعية و99 مروحية.
معطيات تؤكّد أن جورجيا لم تخض الحرب وحدها، فهناك على الأقل 15 دولة أسهمت في الإعداد، إلا أن تبيليسي تُركت وحدها في ساحة المواجهة. الفكرة الأساسية التي تداولتها الصحف الغربية والروسية هي خيبة الأمل الجورجية في ما يتعلق بالدعم الغربي العسكري، وتحديداً الأميركي، الذي لم يكن في المستوى المطلوب، مقارنة بالوعود. بالطبع كان يدرك الجورجيون أن بوش لن يرسل فرق «المارينز» إلى أوسيتيا الجنوبية، إلاّ أنه لا يمكن إغفال الارتباك الأميركي في الوقت نفسه. وبحسب مصدر روسي تحدث لـ«الأخبار»، نزح نحو 40 ألف مواطن جورجي إلى روسيا، وسببت هذه الحرب حقد الجورجيين على نظامهم الذي أدخلهم في حرب غير مضمونة النتائج، «حتى إن بعضهم كان يبصق على جثث جنود جورجيا».
هذه الحوادث تتزامن مع بدء تحرك المعارضة الموالية لموسكو في جورجيا، التي ستعزّز روسيا دورها وقوتها بطبيعة الحال، مع نهاية نفوذ الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي، الموالي للغرب.
الخطأ الجورجي الفادح في قرار شنّ حربٍ على روسيا متعدّد النتائج والاتجاهات؛ فروسيا أثبتت أنها استيقظت من سباتها، وأرادت أن تبرهن عن مدى شراستها حين يصل الأمر إلى منطقة نفوذها، القوقاز. ويقول المصدر نفسه إن روسيا «المستفزة» حالياً إلى أقصى الحدود، ستواصل حملة الحفاظ على ممتلكاتها التاريخية. كيف؟ «أولاً، تدرك موسكو أن زعزعة النظام في تبيليسي سينتقل حتماً إلى أوكرانيا. ومن دون أن تضطر إلى استخدام العمليات العسكرية. فالتهديد بوقف تصدير الغاز قد يكون كافياً لإرضاخ كييف، حتى لا ينتفض سكانها خوفاً من الموت صقيعاً».
ويبدو أن استعجال بولندا توقيع اتفاقية الدرع الصاروخية مع الولايات المتحدة، ما هو إلّا رغبة في تسريع عقد «حبل السرة» مع أميركا، قبل أن يأتي الروس إليهم. إذ يوضح المصدر أن «روسيا آتية لتصفية حسابها مع تشيكيا وبولندا ودول البلطيق لا محالة. وقد اقترب الموعد. وليس بالضرورة أن يتم ذلك بالوسائل العسكرية».
وكأن العبث بالتاريخ الروسي، سيولّد حتماً تاريخاً آخر. فمنذ عشرين عاماً، أسّس الاتحاد السوفياتي هيكلية للحفاظ على كل قومية ومكوناتها، فكانت الجمهوريات ومناطق الحكم الذاتي، إلى أن جاء قائد جورجي هو زياد غمساخوري، ودعا إلى أن تكون جورجيا للجورجيين، فشن حرباً شعواء على الآخرين إلى أن قتل. ساكاشفالي أراد أن يكون بطلاً جديداً، ويحارب الروس انطلاقاً من الأقليات. وها هو اليوم يعيش قدراً أشد من القتل، وهو الخوف من أن يقتل.
الصراع الآن في أوجه بين الولايات المتحدة وروسيا. لن تقدم واشنطن بطبيعة الحال على حماقة عسكرية في روسيا، وإن اكتفت بدور المحرّك. إلّا أن الحرب بين هاتين الدولتين ستتواصل من خلال استغلال الملفات العالقة. لدى واشنطن ثلاثة أهداف أساسية: أولاً دخول المجال الروسي في القوقاز، وبالتالي انتزاع مناطق نفوذها من خلال ضم جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الأطلسي، الذي استطاعت موسكو عرقلته من خلال الحرب. وثانياً، مشروع الحرب على إيران الذي يهدف أيضاً إلى السيطرة على الدولة الإسلامية وجيرانها، الدول التي تمتلك موارد نفطية هائلة، وطرد موسكو منها. أما الهدف الثالث فمتعلق بالدرع الصاروخية، التي لا تخيف موسكو بسبب جهوزيتها العسكرية.
اقتراب الولايات المتحدة من القوقاز هو «خط أحمر» لروسيا، المستعدة لمنعه بكل الوسائل. وموسكو لم تعد تعتمد على «الفكر الأيديولوجي» في تعاملها مع القضايا الخارجية، بل استبدلته بـ«براغماتية» تجعلها تفكّر في مصالحها الاقتصادية والسياسية بالدرجة الأولى. هذا المعيار سيُخضع ملفي الدرع الصاروخية والملف النووي الإيراني لتجاذب بين واشنطن وموسكو. والأخيرة تتوقّع تنازلات أميركيّة، بشّر بها رئيس الوزراء فلاديمير بوتين. روسيا تعلّمت الدرس، وهذه المرة لا مجال للخسارة.