انقلبت الآية، على ما يبدو. فبعدما كانت موسكو الطرف الدولي الأساس الذي تستنجد به دمشق لرفع العزلة عنها، باتت سوريا المبادر إلى رفع الحصار عن روسيا، على أمل إحياء «العلاقة الاستراتيجية» والحصول على منظومات دفاعية متطورة
موسكو ـ حبيب فوعاني
قام الرئيس السوري بشار الأسد بزيارته الأولى إلى موسكو في 25 كانون الثاني عام 2005، في وقت كان فيه مصير النظام السوري موضع تساؤل، بعدما اشتدت الضغوط الغربية على دمشق أثناء هجمة الديموقراطية الأميركية على المنطقة وإجراء الانتخابات في فلسطين والعراق، بينما كانت موسكو في السنة الأولى من الولاية الثانية للرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين تحاول القيام بخطواتها الأولى لتأكيد استقلاليتها في قراراتها وعلاقاتها على الصعيد الدولي. وكان طابع هذه الزيارة في مجمله اقتصادياً، حيث أعلنت موسكو إثر ذلك عن إلغاء 73 في المئة من الديون السورية (نحو 10 مليارات دولار).
وجرت زيارة الأسد الثانية إلى موسكو في 19 كانون الأول 2006 تحت شعار «رفع الحصار عن دمشق»، وفي أجواء تختلف عن أجواء الزيارة الأولى، بعدما نجح النظام السوري في الصمود إزاء الضغوط الغربية، وبعد مراوحة الديموقراطية الفلسطينية في مكانها، والهزيمة الإسرائيلية في لبنان، والفشل الأميركي في العراق، وبعدما نجحت روسيا في تثبيت أقدامها كلاعب مستقل على الصعيد الدولي. وكان طابع هذه الزيارة عسكرياً بعد تحرر دمشق من أعباء الديون العسكرية السوفياتية للبحث في شراء أسلحة روسية جديدة.
وتأتي زيارة أمس وقد حققت موسكو انتصاراً عسكرياً على جورجيا أصاب بروكسل وواشنطن بالهلع، وأكد جدّية الخط الأحمر الذي رسمه بوتين في مطلع عام 2007 في ميونيخ، أمام توسّع النفوذ الغربي في الساحة السوفياتية السابقة، فيما نجحت دمشق نهائياً في فك العزلة السياسية الخانقة التي فرضها عليها الغرب وبعض دول المنطقة، وفي تنشيط تعاونها العسكري والاقتصادي مع موسكو، وفي رفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى أكثر من مليار دولار، ما سمح للروس ببناء محطات كهربائية في سوريا، وبمد أنابيب النفط وتطوير حقوله.
ولذا، يهدف الأسد في زيارته الحالية، إضافة إلى التعرّف إلى الرئيس الروسي الجديد ديمتري مدفيديف، وقد سبقه إلى ذلك الملك الأردني عبد الله الثاني والرئيس المصري حسني مبارك، إلى رسم علاقة استراتيجية ثنائية تناسب المرحلة الجديدة، وتفعيل التعاون بين البلدين في جميع المجالات.
ويرى أن عقد صفقات تسلّح روسية سورية كبرى الآن ذو أهمية سياسية لروسيا وسوريا على حد سواء، وخاصة بعد تصريح نائب رئيس هيئة الأركان العامة للقوات الروسية المسلحة، أناتولي نوفوغيتسين، الثلاثاء الماضي، بأن إسرائيل قدمت إلى جورجيا ثمانية أنواع من طائرات التجسس دون طيار، ومئة قاذفة لتطهير حقول الألغام، و500 شبكة تمويه، وغير ذلك، وأن الخبراء العسكريين درّبوا القوات الخاصة الجورجية، مشيراً إلى أنه كان من المتوقع تزويد تبيليسي بخمسمئة دبابة «ميركافا» ومدرعات وأسلحة فردية ووسائل استطلاع جوي، لكن الضغوط الروسية على تل أبيب حالت دون ذلك.
ومن اللافت أن الزيارة تجري بالتزامن مع بدء معرض الصالون الدولي للأسلحة والتقنية العسكرية في موسكو. وعلى الرغم من تسلّم دمشق لأسلحة روسية خلال السنوات الثلاث الماضية، كانت أهمها دفعة من طائرات «ميغ ـ 29» في العام الماضي، فإن محاولات الجانب السوري لا تنقطع للحصول على منظومة الصواريخ التكتيكية «إسكندر ـــ إ»، التي يصل مداها إلى 200 كيلومتر والقادرة على حمل رؤوس نووية. إذ إن هذا النوع من الصواريخ يستطيع بفعالية تدمير نقاط نيران العدو والمواقع الدفاعية المضادة للصواريخ والطائرات والمطارات ومراكز القيادة والاتصالات ومنشآت البنية التحتية المهمة.
وكما سرّبت الاستخبارات الإسرائيلية في بداية شهر كانون الثاني 2005 معلومات عن إمكان تزويد دمشق بهذه المنظومة إلى الصحافة ما أفشل الصفقة الروسية ــــ السورية المرتقبة، مهّدت الدولة العبرية لزيارة الأسد الحالية بتسريبات مماثلة، أكد على أثرها مصدر في الكرملين لوكالة «إنترفاكس» الروسية أن روسيا لا تنوي توريد أسلحة «حساسة» مثل «إسكندر ــــ إ» أو منظومات صواريخ الدفاع الجوي «إس ــــ 300» إلى سوريا، وأنه من الممكن توريد أسلحة «عادية» مثل طائرات «سوخوي ــــ 30» و«ميغ ــــ 29» ومنظومات صواريخ الدفاع الجوي «بانتسير ـــ إس1» و«بوك ــــ إ1 ــــ 2»، وكذلك منظومات صاروخية أخرى مضادة للصواريخ.
ولذلك يستبعد مدير مركز التحليل الاستراتيجي الروسي، رسلان بوخوف، توريد صواريخ «إسكندر ــــ إ» إلى سوريا هذه المرة أيضاً.
لكن معلومات كانت قد سرّبت إلى الصحافة الروسية بشأن نية موسكو نصب منظومات «إسكندر» الصاروخية في منطقة كاليننغراد الروسية المحاذية لبولندا وفي روسيا البيضاء وسوريا، وإعادة نصب محطة للتنصّت الإلكتروني في كوبا، وكذلك إنشاء قاعدة بحرية روسية عسكرية في طرطوس، رداً على الدرع الصاروخية الأميركية. ومع تصاعد حدة المواجهة بين واشنطن وموسكو، يبقى حصول دمشق على منظومة «إسكندر» بشكل أو بآخر في حيّز الإمكان.
ويبدو أن روسيا، التي «كان لديها صوت عال وأصبحت تمتلك الآن يداً قوية» على حد قول الأسد، لن تتراجع، وستكمل الانتصار العسكري في جورجيا بهجوم دبلوماسي لرفع الحصار الغربي السياسي عنها، وسيكون من أبرز معالمه الاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في الأيام المقبلة، وكذلك إحياء علاقاتها مع أصدقائها القدامى في مختلف أنحاء العالم، وفي مقدّمهم سوريا.
ويبدو واضحاً أنه لا يروق موسكو الاستمرار في إبعادها عن جميع مسارات السلام في الشرق الأوسط حيث تهيمن الولايات المتحدة وأخيراً فرنسا، وخاصة عن المفاوضات السورية ــــ الإسرائيلية بوساطة تركية ودعم أميركي. ولا يعجب موسكو تكثيف باريس بل وواشنطن اتصالاتها مع دمشق.
ولذلك ستسعى موسكو إلى المشاركة في إحياء العملية السلمية في المنطقة وتعزيز مواقعها السياسية فيها، ربما من خلال علاقة استراتيجية روسية ــــ سورية تعيد موسكو نهائياً إلى هذه المنطقة المهمة من العالم، ما سيكون مقدمة لفك الحصار عنها على الصعيد الدولي.