تسلّل إلكتروني إلى أجهزة كومبيوتر السفارات والعسكريّين والمؤسّسات الاقتصاديّة والمدارس
برلين ــ غسان أبو حمد«جاسوس» آخر تسلّل إلى فواتير هاتف عامة الناس، التي وصل معظمها في الشهر الماضي بقيمة خيالية، نتيجة النشاط الإلكتروني لبعض العصابات، من منظّمي ومهندسي أجهزة وخفايا تقنية الكومبيوتر، الذين تمكنوا من التسلل إلى ألعاب الأطفال على شبكة الإنترنت ودفعوهم إلى طلب العون والمساعدة العسكرية «إلكترونياً» للتمكن من متابعة اللعبة عبر تزويدها رقم الهاتف المستخدم.

«أونلاين» يتسلّل رسمياً

على الصعيد الرسمي، توتّرت العلاقات قبل أيام، بين مكتب المستشارية الألمانية وجمعية الصحافيين والمراسلين الأجانب، من جهة، وجهاز الاستخبارات الألماني، من جهة ثانية، بعد انكشاف فضيحة تسلّل «الجاسوس أونلاين»، إلى شبكات الإنترنت والهاتف (الثابت والمحمول) والتنصّت على وزير الاقتصاد الأفغاني امين فرهنج وصحافية ألمانية وعدد من المراسلين العرب والأتراك، وصولاً إلى رجال الدين وبعض المصلّين، ما دفع المستشارة إلى استنكار هذا الأمر وإيصال رسالة شخصية إلى وزير الداخلية تطلب نقل بعض المسؤولين الأمنيّين من مناصبهم (أبرزهم رئيس الجهاز المشهور بنشاطه التجسّسي الضابط أرنست أورلاو) وضرورة معاقبة موظفين أمنيين آخرين. وكشف المتحدث باسم الحكومة الألمانية، اولريش فيلهلم، عن أن علاقة ميركل وأورلاو، تعكّرت بعد فضيحة التجسس الأخيرة على وزير الاقتصاد الأفغاني والصحافية سوزان كولبل التي تعمل في مجلة «درشبيغل». وطالب «بعودة الثقة بين المؤسسات الرسمية الحكومية استناداً إلى إجراءات تعيينات أمنية جديدة ومعاقبة بعض الموظفين في أجهزة الأمن الألماني». وأضاف إن مكتب المستشارية يريد في المستقبل مراقبة أسلوب أداء أقسام جهاز الاستخبارات وتقويمها بشكل مكثف عن طريق مجموعات عمل سيجري تشكيلها، وخاصة لهذا الغرض.

وسائل ابتزاز

كشفت الصحافة الألمانية أن بعض الموظفين الأمنيين الألمان تسلّلوا عبر آلات التصوير السرية والتنصّت على الهاتف، وعبر «الجاسوس أونلاين» إلى شبكات الإنترنت وحياة عامة الناس وصولاً إلى غرف نوم الدبلوماسيين، إضافةً إلى مديري الشركات والمصانع ومعرفة محتويات الرسائل في مكاتبهم، وبالتالي مصادرة ما ترغب الأجهزة الأمنية في معرفته من كلمات مرور وألقاب على برامج «الدردشة» على شبكات الإنترنت. وتفيد صحيفة «دي برسيه» أن أهم ما يتوصل إليه «الجاسوس أونلاين» هو معرفة نقاط الضعف لدى مراكز القوى، والتي تصلح في وقت من الأوقات لممارسة الضغط والابتزاز الأمني والسياسي على الشخص المطلوب. وغالباً ما تتركّز نقاط الضعف هذه على الرسائل الغرامية والشخصية والفضائح المالية أو العمل على امتلاك فضيحة شخصية تؤثّر على الوضع الانتخابي لمسؤول سياسي بين الفئات الشعبية المحافظة، والعمل على تسريب هذه المعلومات سرّاً إلى وسائل الإعلام.

«أونلاين» في كل مكان

التقنية المتطورة، قدمت الكثير من «الخدمات» في مجالات المراقبة وفتحت الباب واسعاً أمام تحركات «الجاسوس أونلاين»، وهذا ما وفّر لبعض الدول الصناعية إمكان التجسّس الصناعي بعضها على بعض. وتبدو الولايات المتحدة في طليعة الدول التي استفادت من أعمال التجسّس والمراقبة لبسط نفوذها على بقية الدول والشعوب.
وتقدّم خدمات الأقمار الاصطناعية المنتشرة في الفضاء وأعمال التجسس التقني الكثير من الخدمات والصور، التي تسمح بمعرفة الحقائق كما تسمح بتزويرها أيضاً، بهدف تبرير التحركات السياسية والعسكرية وتبرير معاهدات الحروب والسلام وتغيير الخطط والبرامج العسكرية كي تُزامِن المرحلة الزمنية الواحدة.
وتبدو الدول الصناعية الغربية متماسكة الخطط ومتعاونة بعضها مع بعض، وما تطرحه في الأسواق على عامة الناس من خدمات تقنية لمكافحة نشاط «الجاسوس أونلاين» يكون قد ولّى عهده وزمنه. وتكفي زيارة إلى معرض التكنولوجيا «سيبيت» في ألمانيا للتأكد من القدرات التي تمتلكها الدول المتطورة صناعياً. وتلفت بعض مجلات التكنولوجيا إلى مخاطر أجهزة الهاتف النقّال، حيث بات بإمكان حامله الاستمتاع بالبرامج التلفزيونية ومشاهدة البطولة العالمية المقبلة لكرة القدم على شاشته الصغيرة، كما بات بإمكان الزوج أو الزوجة، تحديد مكان إقامة أو نوم، «شريك حياته» وبمساحة «متر مربع»، على كامل الكرة الأرضية في حال معرفته لكلمة «مرور» الهاتف النقال عند تشغيله.

الإرهاب والأسباب

أعلن الاتحاد الأوروبي في نهاية العام الماضي (تشرين الثاني 2007) اعتماده برنامجاً «نموذجياً» لمكافحة الإرهاب يستند إلى خطط تكنولوجية لتشديد المراقبة على غرار الخطط التي تعتمدها الولايات المتحدة. خطط طرحها الاتحاد على الدول الأعضاء بمثابة مشاريع قوانين لإقرارها بما يناسب حالة كل منها. وفي إطارها دخل «الجاسوس اونلاين»، إلى الآلات المنزلية والحدائق العامة، عدسات سرية وأجهزة تنصّت.
ودافع مسؤول تنسيق جهود مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي، جيل دو كيرشوف، عن برنامج مراقبة المواطنين «حماية لسلامتهم» عبر الادّعاء بأن تنظيم «القاعدة» لا يزال التهديد الأمني.
وشمل مشروع قانون مكافحة الإرهاب على الأراضي الأوروبية إمكان جمع بيانات مفصّلة عن المسافرين بالطائرات والوافدين من دول خارج الاتحاد الأوروبي وحفظها لمدة 13 سنة، وذلك بدءاً من عام 2011.
وحسب مشروع القانون الألماني فإن الدولة ستفرض على شركات الاتصالات الألمانية حفظ معلومات عن جميع المكالمات التي أُجريت والأوقات التي استخدم فيها الإنترنت وذلك لمدة 6 أشهر في إطار جهود مكافحة الإرهاب.
ولأن التقليد الأوروبي يقتضي التقيّد بمبادئ «الثورة الفرنسية»، فقد تحركت بعض الأحزاب الألمانية ضدّ خطط المراقبة ونظّمت تظاهرات شعبية، طابعها فولكلوري، في ثلاثين مدينة ألمانية، احتجاجاً على «شرعنة» نشاط «الجاسوس أونلاين» وتشكيكاً في جدوى هذه القوانين.

لكل دولة جاسوسها

رغم أن الدول الأوروبية تتفق على استراتيجيا معيّنة في تعاطيها مع ملف مكافحة الإرهاب، إلا أن تطبيق هذه الاستراتيجيا تختلف بين دولة أوروبية وأخرى. وتعود أسباب الخلاف بشأن تحديد إطار حركة «الجاسوس أونلاين» إلى عدم وجود تحديد مشترك لمفهوم «الهجمات الإرهابية».
وفي التطرق إلى نواحي التلاقي والخلاف بين الدول الأوروبية في تحديدها لمفهوم «الهجوم الإرهابي»، تجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي توصّل بكامل أعضائه في صيف عام 2002 إلى صياغة لـ«مفهوم مشترك» للهجمات الإرهابية تفرض على الدول الأعضاء إضافتها إلى نظامها القانوني.
في بريطانيا على سبيل المثال وفي ضوء التفجيرات التي حصلت في لندن في صيف 2005، أصبحت التشريعات أكثر صرامةً، فمثلاً في عام 2006 أصبح كل من يقوم «بتعظيم» أعمال الإرهابيين يسجن سبع سنوات، كما جرى التوسّع في تطبيق عدد من القوانين والتشريعات المتعلقة بالحرب على الإرهاب التي يكاد فيها كل أجنبي محط شبهة إرهابية.
أما في إيطاليا، فقد أصبح لديها منذ شهر تموز من عام 2005 «خدمة سرية» سمحت بمراقبة خطوط الهاتف تحت ما يسمى: «منع الهجمات الإرهابية». أما فرنسا، فاعتمدت قانوناً يسمح بوضع كاميرات مراقبة في الأماكن العامة مثل محطات القطارات.
في ألمانيا، وبعد فشل بعض الهجمات الإرهابية «المميزة» على حدّ وصف التقارير الأمنية الألمانية، أصدرت الحكومة قراراً جديداً يتعلق بمحاربة الإرهاب عن طريق إنشاء «بنك للمعلومات» يتيح الوصول بسرعة إلى أي معلومة يحتاج إليها رجال الشرطة ورجال الاستخبارات حول المشتبه بهم، إضافةً إلى رصد المعلومات عن الأسلحة والإنترنت ووسائل الاتصالات.

الصحافة و«الجاسوس أونلاين»

تعدّ الكلمة ووسائل الإعلام في طليعة المتهمين الخاضعين لرقابة أجهزة الاستخبارات، ونادراً ما يتوجه المحرر في نهاية عمله اليومي إلى منزله من دون أن يفرغ جهازه وشبكة الإنترنت التي يعمل عليها من «فيروسات التجسس» التي تطل عليه في رسائل «إيميل» مجهولة تحمل عروضاً شرائية أو جنسيّة.
وتأتي الحملة على «الجاسوس أونلاين» والتسلّل إلى حياة المواطنين الخاصة والشخصية، في وقت سيّء للاستخبارات الخارجية الألمانية، التي تعرضت للشكوك في السنوات الأخيرة إثر سلسلة فضائح، وخصوصاً ما كُشف قبل نحو عامين (في أيار 2006) عن التجسّس على صحافيين ألمان في محاولة لتوضيح ملابسات تسرب معلومات داخل صفوفها بالذات. وفي التاريخ نفسه تقريباً (نيسان 2006) كان مجلس النواب الألماني قد شكّل لجنة تحقيق في نشاط الاستخبارات الخارجية الألمانية لمعرفة ما إذا كانت ضالعة ومتعاونة مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي ايه) أثناء شنّ الحرب على العراق في عام 2003.
وآخر سلسلة من سيئات الاستخبارات الألمانية إقرارها قبل نحو شهر تقريباً، بأنها كانت على علم بقيام رجال شرطة ألمان متقاعدين أو في فترات إجازاتهم، بتدريب قوات أمن ليبية، من دون إبلاغ الحكومة في برلين.


إضاءة
«المؤامرة في سريري»والشائعات المتداولة حول امتلاك الاستخبارات الألمانية لمعلومات خاصة وشخصية تتناول حياة المواطنين، بدءاً من العمليات الجراحية التي خضعوا لها وصولاً إلى حياتهم الشخصية والغرامية، ليست جديدة ولا يعود زمانها إلى تاريخ تشريع «القانون المشترك لمكافحة الإرهاب»، بل تعدّ المعلوماتية في ألمانيا، جزءاً تقليدياً لا يتجزّأ من حياة المجتمع السياسي الألماني، فطالما امتلكت الاستخبارات الألمانية ما تعتقد بأنه يسمح لها بتحديد هوية المواطنين.
وجاء في قانون مكافحة الإرهاب المشترك بعض المواد المثيرة للاستغراب، ومن ذلك: «... وفي مجالات مكافحة الجرائم الخطيرة والإرهاب، يسمح بتبادل المعلومات الشخصية والخاصة المتعلقة بالشخص المطلوب، ومنها عِرقه ولونه ومكان ولادته وقناعاته السياسية والدينية وجميع الارتباطات التي تجمعه إلى أحزاب ونقابات. ومعلومات تتناول وضعه الدراسي العلمي وعلاماته في الامتحانات وصولاً إلى وضعه الصحي والعمليات الجراحية وحياته الجنسية وتحديد حالات الشذوذ الجنسي لديه» (المادة 12 ـــــ قانون مكافحة الإرهاب المشترك).
وتضيف وزارة الداخلية الألمانية لوكالة «شبيغل أونلاين» إن تبادل المعلومات بين أجهزة الاستخبارات الغربية هو عرض كل ما بإمكانه الإسهام في تذليل العقبات والصعوبات المتعلقة بتوضيح هوية الشخص المطلوب. وإن توفير الحماية لمصدر المعلومات ضروري جداً.
وتطرح الناطقة باسم الحزب الليبرالي الديموقراطي جيزيلا بيلتز التساؤل عن علاقة التوجّهات الإرهابية بالشذوذ الجنسي، ويأتيها الرد الرسمي من وزارة الداخلية بأن الموضوع الجنسي في بعض المجتمعات له حساسيات خاصة تعكس ذاتها على سلوك المتهم.
وفي هذا السياق، يتشعّب موضوع تبادل المعلومات الشخصية والخاصة حول المواطنين ليطرح قضايا قانونية بشأن أحقية الدولة في نقل معلومات مواطنيها إلى دول أخرى. وبعيداً عن الغوص في الشأن القانون، تجدر الإشارة إلى أن وزير الداخلية فولفغانغ شويبله ووزيرة العدل بريجيتا زيبريس اتفقا مع الولايات المتحدة الأميركية على ضرورة تعميق التعاون في مجالات المشاركة في مكافحة الإرهاب.
وبحسب تقديرات بعض المصادر الإعلامية فإن أكثر من نصف مليون مواطن ألماني وأجنبي، إضافةً إلى من يوقَف بتهمة أو يسجَن أو يعتقَل لفترة ساعات تكون «تفاصيلهم» الكاملة قد دخلت فوراً في «بنك المعلومات المركزي» لمكافحة الجريمة.