غزة تكره الموت، لكنه يرافقها لحظة بلحظة. رائحة الدم تنبعث من كل مكان، بعدما زرعت «المحرقة» الإسرائيلية الموت في مخيمات غزة الفقيرة وفي شوارعها وأزقتها، حتى بات عنواناً لمشاهد يومية دامية، متداخلاً مع نسيج حياة الغزاويين وتفاصيلهاغزة ــ رائد لافي
لا صوت في غزة يعلو على صوت الرصاص والقذائف، وهدير الدبابات والطائرات الحربية الإسرائيلية التي تصنع الموت لمجرد الموت، وتقتل الفلسطيني لكونه فلسطينياً، حتى اكتظت ثلاجات الموتى بالشهداء، وتناثر المصابون والجرحى في ممرات المستشفيات، في ظل نقص أسرّة العلاج والدواء.
الموت في غزة لا يعني القتل وحسب، فكل ما في غزة يموت بموت الإنسان ويحزن عليه إلى حد «الشلل»؛ فدماء الشهداء في مخيم جباليا انسحبت سواداً لفّ مدن غزة وقراها ومخيماتها، التي تعطلت فيها المدارس والجامعات والمرافق العامة.
وكانت رائحة الدم وأشلاء القتلى تفوح من ثنايا البيوت المدمرة في أزقة جباليا. وتصرخ منال عبيد (29 عاماً)، وهي تسرع نحو مستشفى «العودة»: «قتلوا ابني». لكنها سرعان ما تستعيد هدوءها بعدما تأكدت من أن طفلها مصاب بجروح بسيطة.
وروى عدد من السكان في بلدة جباليا أن الطفلة صفاء أبو سيف (12 عاماً) استشهدت بعدما نزفت لأكثر من ساعة في منزلها، حيث لم تتمكن طواقم الإسعاف من الوصول إليها بسبب كثافة إطلاق المروحيات النار في كل الاتجاهات.
بكى الغزاويون من شدة الألم، وهول مشاهد أشلاء الشهداء، وصرخات الجرحى، الذين عجزت عن علاجهم إمكانات المستشفيات المتواضعة، التي تحولت إلى «خلايا نحل» تعمل على مدار الساعة. وانهمكوا خلال الساعات الماضية في دفن شهدائهم للتخفيف من «ازدحام الجثث» في ثلاجات الموتى. واضطروا إلى دفن شهدائهم بطرق بدائية، في ظل نفاد المواد الخاصة ببناء القبور، بفعل الحصار الخانق وإغلاق المعابر منذ ثمانية أشهر.
واشترك شهيدان وأكثر في الثلاجة الواحدة، بينما وصلت نسبة إشغال الأسرّة في أقسام العناية المركزة إلى مئة في المئة في ظل كثافة أعداد المصابين بجروح خطرة وبالغة.
وبدا المشهد في مستشفيات غزة مأساوياً، حيث افترش عشرات المصابين الأرض، وسط صيحات وصراخ من شدة الألم.
وارتمت أم محمد ظاهر على الأرض في قسم الطوارئ في مستشفى الشفاء، تصرخ من شدة الألم المنبعث من جرحها النازف، وحزناً على فقدان ابنتها نهاد التي استشهدت جراء إصابتها بجروح خطرة في مخيم جباليا.
وعلى مقربة من أم محمد ظاهر، هزت صيحات الشاب أحمد (17 عاماً) أرجاء المكان من شدة الألم الذي يعانيه جراء بتر ساقه. وتغلب أحمد على آلامه للحظات، وقال: «لم أرتكب جريمة، لقد كنت ألعب الكرة مع مجموعة من أصدقائي في المخيم عندما استهدفتنا طائرة إسرائيلية بصاروخ».
يبدو أن لعب الكرة فعلاً جريمة تستحق القتل في المفهوم الإسرائيلي، فالطفل أنس المناعمة (15 عاماً) فقد عينه أيضاً في قصف جوي استهدفه ومجموعة من أقرانه الأطفال بينما كانوا يلعبون الكرة شمال مدينة غزة. اثنان من الأطفال سقطا فوراً شهيدين على أرض الملعب، بينما روح أنس لا تزال «متأرجحة بين الموت والحياة»، حيث يرقد في قسم العناية المركزة في مستشفى الشفاء لا يعي ما يدور من حوله بعدما فقد عينه وجزءاً من جمجمته. آخرون بَدَوا يراقبون ابنهم الشاب عبد المعطي سعد، الذي وصف الأطباء حالته بـ«الموت السريري» نتيجة إصابته الخطيرة في الرأس.
الأطباء في مستشفى الشفاء لم يكونوا في منأى عن الصدمة، حيث وجدوا أنفسهم مضطرين للتعامل مع تدفق أعداد كبيرة ومتلاحقة من الشهداء والجرحى، في ظل نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية. ووصف رئيس قسم الجراحة في مستشفى الشفاء، الطبيب رائد العرعير، معظم الجرحى بأنهم «أحياء في عداد الأموات». وأشار إلى أن معظم الجروح في الأجزاء العلوية من الجسد، بينما كثيرون فقدوا أطرافهم وعيونهم، مشيراً بكثير من الألم والحسرة إلى أن أكثر من 30 جريحاً عرضة للموت في أي لحظة.