strong>العلاقات الأميركيّة ـ الروسيّة تحت رحمة «شراكة مكافحة الإرهاب» حسن شقراني
مجالات التعاون الحيوية التي جمعت البيت الأبيض بالكرملين منذ بداية القرن الجاري، كانت تحت راية مواجهة «الخطر الحديث» (المستحدث): الإرهاب بطابعه العام وبنكهته الإسلاميّة تحديداً. والسبب بسيط، فالإدارتان الروسيّة والأميركيّة استثمرتا مسّ الإرهاب بجسد الوطن لتحويل «حماية الأمّة» إلى عنوان كوني، مثّل لواشنطن حجّة للتعاطي مع العالم في ظلّ مبدأ: «من ليس معنا في حربنا على الإرهاب فهو ضدّنا»، كما أعطى موسكو هامشاً للمناورة في التوازنات الدوليّة، على الصعيد الأمني تحديداً.
فلاديمير بوتين نجح في تمتين مقعده الرئاسي الموروث عن بوريس يلتسين، من خلال حملة عسكريّة استباقيّة أطلقت في 26 آب عام 1999 (أي قبل 4 أشهر من تسلّمه الولاية الأولى): حرب الشيشان الثانية، التي قلبت فيها موسكو المعايير في «جمهوريّة الأمر الواقع» الانفصاليّة، وفرضت في العاصمة الإسلاميّة، غروزني، حكومة موالية مع حلول أيّار عام 2000.
وهذا الواقع الجديد، أعاد هيبة إلى الجيش الروسي، كان قد فقدها في حرب الشيشان الأولى (من 1994 إلى 1996)، واستغلّه بوتين في حملته الرئاسيّة الأولى، لتتحوّل «المهمّة» في ما بعد إلى إنعاش للاقتصاد مدعوم بارتفاع أسعار النفط وبسيطرة الكرملين المطلقة على مختلف مرافق الحياة الروسيّة، لكي تستقرّ الأمور الآن على وصول تلميذ بوتين، النائب الأوّل لرئيس الوزراء، ديميتري ميدفيديف، إلى السلطة بعمليّة انتقال سلسة.
ما حدث في الولايات المتّحدة منذ بداية القرن شبيه إلى حدّ بعيد (وإن باختلاف في المعايير والنتائج) بالتجربة الروسيّة. فإدارة الرئيس جورج بوش حقنت نتائج الهجمات الإرهابيّة على نيويورك في 11 أيلول 2001 في شريان إعادة الاعتبار إلى رئيس فقد صدقيّته قبل وصوله حتى إلى البيت الأبيض وبدء مهمّاته: التزوير الواضح لانتخابات الرئاسة في ولاية فلوريدا. وبعد إطلاق حربين في أفغانستان والعراق، ظهرت المفاعيل المباشرة للإنفاق العسكري على الاقتصاد، كما ظهرت النتائج الإيجابيّة للعقيدة الاقتصاديّة المحافظة (النتائج الوهميّة للخفوض الضريبيّة).
ولكن ما سترثه الولايات المتّحدة (برئاسة سياسي لم يُحسم بعد هل سيكون جمهوريّاً أو ديموقراطيّاً... أو ديموقراطيّةً) بعد ولايتين لبوش الابن، هو احتلالين (حتّى الآن) فاشلين في آسيا، واقتصاد يتوجّه نحو ركود تنعكس مفاعيله على العالم، ورأي عام يتوق إلى«التغيير»، الذي يلقى صدى في الحملة الانتخابيّة للديموقراطي باراك أوباما.
تجربتا البلدين العملاقين في النظم العسكريّة والديموغرافيّة والجغرافيّة والاقتصاديّة، وجدتا نقطة لقاء تعاوني بعد «11 أيلول» مباشرة. حينها وقف بوتين (كسائر قادة العالم) ليعرب عن تضامنه الوثيق مع العدو التاريخي، واستعداد إدارته لتسهيل «العمليّة الانتقاميّة» التي ستقودها واشنطن. غير أنّ الأمور أخذت منعطفاً مختلفاً في إطار الجدل بشأن شرعيّة غزو العراق.
وامتدّت معارضة موسكو لـ«الطريقة الأميركيّة» خلال 4 سنوات، لتتفجّر (في ظلّ عودة الهيبة الروسيّة) في مؤتمر ميونيخ للأمن في مطلع عام 2007، عندما تحدّث بوتين عن ضرورة كسر الأحادية، وإعلانه عن استعادة ممارسات الحرب الباردة (إعادة جدول طلعات القاذفات الجويّة الاستراتيجيّة، وإطلاق برنامج لتحديث بنية الجيش والمؤسّسة العسكريّة وفي مضمارها النووي).
وبالفعل، فقد بدأ الحديث الفعلي في منتصف العام الماضي عن عودة الحرب الباردة، وعن مواجهات رمزيّة بين القوّتين العسكريّتين للبلدين.
في ظلّ هذا الواقع، يمكن القول إنّ هامش التعاون الوحيد بين البلدين مثّلته المناورات العسكريّة التي كانت آخرها أوّل من أمس: تدريبات مشتركة في الشرق الروسي على سيناريوات «اختطاف طائرة» من جانب إرهابيّين، حسبما أوضح مساعد القائد العام للقوات الجوية الروسية، العقيد ألكسندر دروبيشيفسكي. ولكن هل البلدان متّفقان على تعريف دقيق للإرهاب لتحديد كيفيّة مواجهته؟ الجواب طبعاً لا. والحجّة هي أنّ الخطط الأميركيّة لنشر منظومة الدفاع الصاروخي في أوروبا لمواجهة «صواريخ الدول المارقة»، تعارضها موسكو تماماً، مع أنّ واشنطن تراها ضروريّة لمواجهة «الدول الإرهابيّة»: إيران وكوريا الشماليّة (قد تتغيّر المعايير بالنسبة إلى الأخيرة من خلال مخرج توفّره «الطريقة الأميركيّة»!).
العالم عاد إلى واقع «توازن الرعب»، وبالتالي يمكن الاستنتاج أنّ الزيارة التي سيقوم بها وزيرا الدفاع والخارجيّة الأميركيّين، روبرت غيتس وكوندوليزا رايس، إلى موسكو في 17 و18 من الشهر الجاري، لإجراء محادثات بشأن الدرع الصاروخية ومستقبل معاهدة الحدّ من الأسلحة الاستراتيجيّة («ستارت») ومكافحة الإرهاب، هي معالجة دبلوماسيّة لملفّات فهمت واشنطن أنّ المواجهة فيها غير مجدية، بل وتكسر آخر جسور التعاون وترفع توازن الرعب إلى مستوى آخر: حرب باردة قائمة على مواجهات قد تتحوّل إلى ساخنة، ويكون الشرق الأوسط أولى ساحاتها.