أرنست خوري
موسم السياحة في تركيا مزدهر على امتداد الفصول. ويمثّل هذا القطاع عاملاً يوحّد العلمانيّين والإسلاميّين على حساب الملفّات الخلافيّة الكثيرة بين التيّارين. العلمانيّون يتباهون بأنّهم تمكّنوا من توظيف كلّ المعالم الجغرافية والتاريخية أو حتّى... السياسيّة، في نهضة هذا القطاع المزدهر في هذا البلد الشاسع والموغل عميقاً في الحضارات. وفي قلب العاصمة أنقرة تحديداً، متحف ضخم يحمل اسم «أنيتكبير»، يحتضن قبر الرمز الأوّل في البلاد، مصطفى كمال أتاتورك، إلى جانبه يرقد الرئيس الثاني لتركيا الحديثة عصمت إينونو. متحف حوّل منذ تشييده قبل 54 عاماً، إلى شبه محجّ ديني لعلمانيّي البلاد، يمارسون فيه كل المظاهر التي ترافق زيارات المسيحيّين إلى مقدّساتهم في فلسطين المحتلّة، والمسلمين في مكّة وجبل عرفات... هناك، التغزّل بـ«الجمال الذكوري لأتاتورك» وتقبيل تمثاله وأغراضه وملابسه والسجود تحته حتّى من جانب الملايين، أمور شائعة، تجعل المكان ذا قدسيّة تنافس لما كان للمتحف الذي يحتضن جثّة لينين المحنّطة (إلى اليوم) في موسكو من هيبة، عبّر عنها جعل المتحف المذكور، طيلة عقود الحكم السوفياتي، نقطة الحراسة الأولى في البلاد.
بناءً عليه، لا يصبح مستغرباً واقع أنّ الدستور التركي ينصّ على أنّ «شتم الرمز أتاتورك»، يُعاقَب عليه في القانون الجزائي.
لكن أشياء كثيرة لا تزال تثير الغرابة في تركيا. فعلى سبيل المثال، ما الذي يفسّر أنّ عدد الزوّار الذين أدّوا مراسم الحجّ في «أنيتكبير»، بلغ عام 2007، الذي كرس اكتساح الحزب الإسلامي المحافظ «العدالة والتنمية» للحياة السياسية، مستوى قياسيا؟ ففيما تشير تلك الزيادة في عدد السيّاح (بلغوا 12.7 مليون في 12 شهراً غالبيتهم الساحقة من المواطنين الأتراك)، إلى أنّ المدّ العلماني يعيش عصره الذهبي، تأتي المعطيات السياسيّة والانتخابيّة لتكذّب التحليل؛ فـ«العدالة والتنمية» حصد أصوات نحو 17 مليون تركي في الانتخابات التشريعية في 22 تموز الماضي، أي 46,6 في المئة من عدد الناخبين، محقّقاً بدوره، رقماً قياسيّاً ارتفع بنسبة 12.38 في المئة مما حقّقه في انتخابات 2002، وهو «حلم» توقّع البعض أن ينتهي بانقلاب عسكري كان سيًُعدّ الخامس في تاريخ البلاد لو حصل.
تناقضات الواقع التركي، يرى فيها البعض انعكاساً طبيعياً للتركيبة القومية والطائقية المعقّدة في البلاد؛ تعقيد تشير إليه حقائق من نوع أنّ الدين الإسلامي الذي يعتنقه 98 في المئة من الأتراك، يكرّسه القانون التركي بمنع ارتداء الحجاب الإسلامي في المدارس والوظيفة العامّة تحت طائلة الطرد والعقاب.
الأكيد أنّ الإسلاميّين الأتراك يعيشون اليوم عصرهم الذهبي، واحتمالات الانقلاب عليهم تتضاءل. لكن عودة سريعة إلى الخلف تفيد أن لا شيء مستحيلاً في تركيا. فبعدما حوّل العثمانيون كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد إسلامي، عاد العلمانيون وحوّلوها إلى متحف. من يدري، قد يستفيق أحفاد الخلافة الإسلاميّة الأخيرة على واقع أنّ متحف «أنيتكبير» أصبح مسجداً... فوق تراب أتاتورك.