حيفا ــ فراس خطيب
بعد 34 عاماً على حرب تشرين الأول 1973، وبعد شهرين ونيّف على وفاته، لا تزال قضية المصري أشرف مروان، صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، تؤرّق «الموساد» الإسرائيلي، الذي اعتبر مروان «الإنجاز الاستخباري الأكبر». إنجاز يتحوّل اليوم إلى «الإخفاق الأكبر»، مع اتجاه إحداثيات القضية إلى تأكيد أن مروان «خدع» الإسرائيليين وعمل لمصلحة مصر


شكّ تقرير أعدّه محلّل الشؤون الاستخبارية في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، رونين برغمان، في أن يكون أشرف مروان عميلاً للموساد، طارحاً تساؤلات عديدة بهذا الخصوص. واستعاد رجال من «الموساد»، الجلسة الأولى التي جمعتهم مع مروان، مشددين على أنَّ أمراً غريباً لفّ قضيته.
ويستند التقرير، الذي ينشر اليوم في ملحق «يديعوت»، إلى شهادات عملاء لـ«الموساد» وتحقيقات الشرطة البريطانية حول موت أشرف مروان. ويشير إلى أن هناك شهادات جديدة تقوّي احتمال تعرّضه للقتل، وإلى أن ابنه، جمال مروان، لمّح في التحقيق إلى أنَّ والده قتل على أيدي إسرائيل.
ويقول برغمان، في تقريره، «يتبين الآن أن مروان لم يخدع فقط الموساد وعمل لمصلحة (أنور) السادات، بل إن المعلومات التي نقلها لإسرائيل باعها أيضاً للبريطانيين والإيطاليين».
بحسب الرواية الإسرائيلية، فإنَّ مروان، في الليلة الفاصلة بين الخامس والسادس من تشرين الأول من عام 1973، أبلغ رئيس «الموساد» الإسرائيلي في حينه تسفي زمير، معلومة دراماتيكية: «الحرب على الأبواب».
جرى تسليم المعلومة في شقة في وسط أحد الأحياء الغنية في العاصمة البريطانية لندن، استأجرها «الموساد» عام 1971 واستعملت لـ«لقاءات سرية» مع «عملاء مهمين». سافر في ذلك الحين قائد الحملات في «الموساد»، تسفي ملحين، إلى لندن لحراسة اللقاء وليتأكّد أن مروان «لا يجرّ وراءه ذنباً»، في إشارة إلى أن لا أحد يتبعه.
كان الحي كله مراقباً: عشرة عملاء «موساد» من الرجال والنساء تجوّلوا قبالة الشقة. وكان قائدهم، ملحين، موجوداً داخل إحدى السيارات يشرف على عملية الحراسة، وينقل لهم التعليمات عبر جهاز اتصال بلغة مشفّرة لمراقبة «حوتال»، وهو أحد الأسماء التي أطلقها «الموساد» على مروان، بالإضافة إلى «بابل» و«رشاش» و«كاردينال».
يستعيد رافي ميدان، مسؤول «الموساد» في السابق، ليلة اللقاء بقوله: «لم أفهم كيف وصل مروان الى لقاء سري كهذا من دون اتخاذ أي وسيلة للحذر؟ كان عليه أكثر من أي شخص آخر أن يخشى انكشاف سره. لقد وصل بسيارة محصنة، تحمل رقماًَ دبلوماسياً تابعاً للسفارة المصرية. ولم يحاول حتى إيقاف سيارته بعيداً». ويضيف «توقف مروان بجانب البيت، خرج من السيارة. رتّب سترته، ودخل من دون أن يلقي نظرة خاطفة من حوله. لماذا لم يخش بأن تسرب الاستخبارات البريطانية خبر لقائه إلى المصريين؟ إلا إذا علم المصريون باللقاء».
القرص المدمج
قبل أشهر من وفاته، بدأت تتجمّع شهادات عن خوف مروان على حياته. فقد شارك بين الواحد والثلاثين من تشرين الأول والثاني من تشرين الثاني من عام 2006، في مؤتمر تحت عنوان «50 عاماً على حرب السويس، من الصراع الى التعاون»، في لندن، نظمته النقابة المصرية ـــــ البريطانية والمعهد البريطاني لأبحاث الشرق الأوسط.
وتقول «يديعوت» إن مروان كان من بين المشاركين في المؤتمر. وقال مسؤول في الاستخبارات البريطانية إن مروان كان «خائفاً» على حياته في تلك الفترة، وهذا ما قاله أيضاً لأصدقائه المقربين.
وبحسب معلومات وصلت إلى المحققين البريطانيين حول محادثات جمعت مروان مع مشاركين آخرين في المؤتمر، أخرج مروان أمامهم قرصاًَ مدمجاً كان معلّقاً بعنقه، يحوي مسوّدة لكتاب سينشره مروان مستقبلاً، ويعرض «الحقيقة عن دوره في حرب الغفران 1973». وقال لمن التقاه حينها إن الكتاب «سيكون مادة متفجّرة». إلا أنه على رغم التفتيش الدقيق لبيت مروان بعد موته، ولم يُعثر على مسوّدة الكتاب المذكور، ما دفع المحققين إلى التفكير في علاقة ما بين المسوّدة ومقتله.
العلاقة مع إسرائيل
علاقة أشرف مروان بإسرائيل بدأت قبل أربع سنوات من حرب 1973. دخل إلى السفارة الإسرائيلية في لندن وعرض خدماته. وقال برغمان إن إسرائيل دفعت ما بين 150 إلى 200 ألف دولار لمروان في مقابل اللقاء الواحد. وقد دفع له الإسرائيليون ثلاثة ملايين دولار في مقابل معلومات زوّدهم بها.
كان الإسرائيليون، خلافاً لليوم، متأكدين من أن «لا شيء يسير في مكتب (الرئيس المصري الراحل أنور) السادات من دون علمهم». ازدادت ثقة الإسرائيليين بمروان الى حد التعلّق به حتى بعد حرب 1973. كان الصمت من قبله علامة على أن «لا هجوم من قبل مصر».
بعد 34 عاماً على نقله المعلومة المهمة، لا تزال «روح حوتال» تلاحق «الموساد». فمن اعتُبر واحداً من الإنجازات المفتخرة للدولة العبرية في أعقاب اعتقادها بأنها اخترقت قلب النظام العربي، يتبين مع الأيام أنّه واحد من الإخفاقات الاستخبارية الأكبر. وهناك الكثير من الادعاءات والتساؤلات الاسرائيلية تساند الادعاء القائل بأن مروان عمل لمصلحة المصريين وكان عميلاً مزدوجاً.
من جملة الادعاءات والتساؤلات الاسرائيلية هي كيف يجرؤ مروان على الدخول إلى السفارة الاسرائيلية في لندن بشكل مكشوف وهو على علم بأنه مراقب؟ كيف من الممكن أن يتحوّل مروان الى جاسوس علماً بأنه غني ويحظى باحترام كبير وكان صهر عبد الناصر؟
أحد التساؤلات الاسرائيلية يتمحور حول مذكرات القيادة العسكرية المصرية التي أبلغت بأن قرار الحرب اتخذ في الثالث والعشرين من آب 1973. إلا أن مروان أبلغ الإسرائيليين بأنها أُجّلت إلى نهاية العام نفسه. ويقول الاسرائيليون إنه في الخامس والعشرين من أيلول عام 1973، التقى الملك الأردني حسين رئيسة الحكومة الاسرائيلية غولدا مئير وحذّرها من الحرب، متسائلين كيف عرف الملك حسين، ومروان لم يعرف؟
قبل وقت قصير من إعلان الحرب، كان مروان موجوداً في لقاء جمع السادات وملك السعودية فيصل. أبلغ السادات الملك بالهجوم المتوقع. وهذه المعلومة لم تصل اسرائيل. المعلومة التي نقلها مروان الى الاسرائيليين لم تكن قيمة، وخصوصاً ان المصريين قدّروا بأن اسرائيل ستعلم بشن الهجوم قبل 20 ساعة من اندلاعه، حتى من دون معلومة مروان. إلا أن نقل مروان للمعلومة كانت ستساعده على البقاء «عميلاً مزدوجاً».
عام 2004، استطاعت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أن تشاهد مروان يقبل ويعانق الرئيس المصري حسني مبارك في ذكرى الحرب. واستنتج الإسرائيليون أن مبارك لا يمكن أن يتعامل بهذه الطريقة مع «خائن»، إذا كان كذلك. وبعد الحرب، منح السادات مروان وسام الشرف العسكري سراً.
عميل ثلاثي ورباعي؟
نقل تقرير «يديعوت» أقوال مسؤول رفيع المستوى في الاستخبارات الإيطالية، ادّعى أن مروان نقل معلومات إلى روما في مقابل أموال. وقال «لقد زودنا بمعلومات حول الحرب قبل ساعات من لقائه رئيس الموساد في لندن».
ويدّعي برغمان أنه في السنتين الأخيرتين، كشف تحقيق للطالبة دينا رزق، بريطانية من أصل مصري، أن مروان زوّد البريطانيين بمعلومات، ومنها معلومة عن بدء الحرب.