حاوره أرنست خوري
تصوير مروان طحطح

ليس من السهل في عصر التماهي الأوروبي مع السياسة الخارجية الأميركية، أن تجد شخصيات سياسية أوروبية كالنائب اليساري في البرلمان الأوروبي ميغيل بورتاش، المناصر للقضية الفلسطينية، والملتزم قضايا العلمانية ومحاربة الطائفية. ولا تمنع شيوعية بورتاش من أن يعتبر حركة «حماس» و«حزب الله» تجسيداً لمقاومة وطنية، رافضاً التعريفات الأميركية والأوروبية للإرهاب. ورغم ذلك، يبقى همّه الرئيس، التفكير بأساليب تطوير الاتحاد الاوروبي ليصبح اتحاداً للشعوب وليس للحكومات

  • بعد مرور نحو عام على آخر زيارة إلى بيروت خلال عدوان تموز، كيف وجدت اليوم هذا البلد المليء بالأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟

  • ـــــ زرت لبنان سبع مرات، وآخرها كان خلال الحرب التي شنّتها إسرائيل على لبنان، في الوقت الذي كانت فيه مواقف الاتحاد الأوروبي داعمة لإسرائيل. وحاولنا حينها في حزب اليسار الأوروبي تغيير هذه الوجهة الأوروبية الرسمية الملتحقة بالإدارة الأميركية، وسعينا إلى ترجمة دعمنا للمقاومة اللبنانية والتضامن مع الشعب اللبناني. واليوم أنا هنا لأنني كنت في زيارة رسمية إلى سوريا، واستغللت الفرصة لقضاء أربعة أيام في لبنان، وسُعدت جداً بحضور حفلة عيد صحيفتكم للاستماع إلى موسيقى وأغاني زياد الرحباني، كما كنت فرحاً جداً بلقاء جمهور اليسار العلماني في هذا البلد الذي تأكله الطائفية.

  • هل تتخوّفون من خطر تدهور الأوضاع الأمنية في لبنان على شكل فوضى أو حتّى حرب أهلية؟

  • ـــــ أعتقد بأنّ خطراً كهذا موجود فعلاً، وهو ما يوجب على جميع الأطراف التوصّل إلى تسوية، ولو على شكل هدنة، لتحاشي الانزلاق نحو المحظور الأمني، لأنّ هناك ضغوطاً هائلة تمارسها الولايات المتحدة وحلفاؤها اللبنانيون، أضف إلى ذلك أن الطائفية والأوضاع الاجتماعية الكارثية وصلت إلى مستوى من شأنه تفجير الأوضاع بشكل كامل. وحان الوقت لكي يقرر اللبنانيون ألا يكونوا جنوداً على رقعة الشطرنج الدولية الإقليمية التي لا تنحصر في معسكري الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وسوريا وإيران من جهة ثانية، بل تشارك فيها أوروبا ودول الخليج بقوة أيضاً.

  • ما هو تصنيفكم لـ «حزب الله»؟ هل تعدّونه مقاومة، أو تنظيماً إرهابياً أو حركة دينية متطرّفة؟

  • ـــــ حزب الله في ثمانينيات القرن الماضي، هو شيء مختلف جذرياً عما هو عليه في هذه المرحلة. وهو اليوم حزب وطني مقاوم بامتياز، يعترف بأنّ المقاومة الوطنية بدأها اليساريون، ولا يمكن متابعتها إلا بالخروج نحو مشروع وطني يجمع كل اللبنانيين، وليس المسلمين أو الشيعة فحسب. لقد طوّر الحزب برنامجه السياسي منذ مطلع التسعينيات بشكل مثير للإعجاب، وخصوصاً على مستويات مصيرية، أبرزها الاعتراف الجازم بنهائية الوطن اللبناني الذي لا يريده جمهورية إسلامية، بل يريد المحافظة على تعدّدية الطوائف فيه رغم مرجعيته الدينية. وهنا تكمن المفارقة، وهي أنّ إسرائيل هي التي سبّبت، عن غير قصد وعن طريق استمرار احتلالها للبنان وعدوانها عليه، بتحوّل حزب الله من حزب إسلامي أممي، إلى حزب لبناني وطني.

  • وماذا عن الترسانة العسكرية للحزب، التي يُقال إنها تهدّد مفهوم الدولة اللبنانية؟

  • ـــــ حتى اليوم، هذا السلاح وهذا الحزب، كانا الضمانة الحقيقية لوجود لبنان في وجه الاعتداءات الإسرائيلية، من دون أن ينفي ذلك أنّ على اللبنانيين أن يجدوا استراتيجية دفاعية شاملة لبلدهم لحلّ مسألة سلاح حزب الله، بطريقة تجعل من جيشهم قوياً وقادراً على الدفاع عن بلدهم في وجه إسرائيل. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ قرار الإبقاء على الجيش اللبناني ضعيفاً لم يكن فقط قراراً إسرائيلياً وسورياً، بل أيضاً قراراً مركزياً في استراتيجيات زعماء الطوائف الذين يحكمون لبنان. وهكذا، فإنّ جميع الأطراف اللبنانية مسؤولة عن سلاح حزب الله، لأنه حمى بلدهم حتى الآن، وهو ما حوّل الحزب إلى دولة داخل لا دولة.

  • خلال زيارتكم إلى سوريا ولقائكم الرئيس بشار الأسد، ماذا استشففتم من تقويمه للوضع اللبناني؟

  • ـــــ الأسد يريد شيئاً واحداً، وهو ألا تؤول الأوضاع اللبنانية إلى الفوضى، وذلك همّ جدّي بالنسبة إليه. وأنا واثق مما قاله لي من أنه لا يريد التدخّل في الأوضاع الداخلية في لبنان، ويرغب في ألا تتعطّل الحياة السياسية، لإبعاد الخطر عن بلاده، ولكي يتجنّب مصدر مشاكل تُضاف إلى تلك التي يعاني منها على الجانب الآخر من حدوده (مع العراق)، فهو لا يريد عراقاً آخر على حدوده.

  • كيف حلّلتم الغارات الإسرائيلية الأخيرة على الأراضي السورية؟

  • ـــــ برأيي، كانت هذه الخطوة «جسّ نبض» إسرائيلي للاستعدادات العسكرية التي تمتلكها سوريا من جهة، ولمعرفة نوعية الردّ السياسي الذي ستواجه به دمشق الاستفزاز العسكري.

  • وكيف تنظرون إلى الردّ السوري؟

  • ـــــ الرد السوري جاء مقاومة كلامية ليس إلا، لكن ما يهمني من خلال هذه الحادثة هو ما السيناريو الذي يمكن تركيبه من سلسلة من الأحداث، تبدأ من العراق وتمرّ بالغارة الإسرائيلية، وصولاً إلى التصريحات الحربية لوزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير، ثمّ الرفض الأميركي لتسوية رئاسية في لبنان. كلها مؤشّرات ترسم خطاً تصاعدياً سلبياً في المنطقة قد تنفجر في أي لحظة.

  • بعد تصريحات كوشنير، هل ترون أنّ الولايات المتحدة ستشنّ قريباً عدواناً على إيران؟

  • ـــــ منذ فترة كانت هذه الفرضية على جدول أعمال الإدارة الأميركية، وهي احتمال يقوى مع الأيّام ولا بدّ من أخذه على محمل الجدّ. فالأميركيون يعانون أزمة لا حلّ لها في العراق إلا بالانسحاب، وهم يحاولون عبثاً اعتماد سياسة الهرب إلى الأمام. وتعتقد الإدارة بأنّ خلق نزاع سياسي وعسكري جديد في المنطقة، سيغيّر جميع المعطيات السياسية من تحالفات بين الدول وعلاقات بينية. وتعتقد واشنطن أن توجيه ضربة خاطفة لإيران وسيلة لاستعادة هيبتها والهيبة الإسرائيلية التي فقدتها في لبنان. وأرى أن الاحتمال القوي هو توجيه ضربة جوية سريعة.
  • لكن الأميركيين يروّجون لفكرة أنّ بقاءهم في العراق هو خطّ دفاع أمام المطامع الإيرانية في المنطقة.

  • ــــ المشكلة أنّ الأميركيين يعتمدون سياسة مليئة بالتناقضات. فعلى سبيل المثال، حيّوا بحرارة قرار (الزعيم الشيعي العراقي) مقتدى الصدر تجميد نشاطات ميليشيا جيش المهدي، ثمّ نراهم يعودون ويمارسون ضدّ مناصريه تصفيات جسدية ويحاربونه سياسياً، ثمّ يتّهمونه بالعمالة لمصلحة إيران، ثمّ يعودون للكلام عن خلافات تصل إلى حدّ الاقتتال بين الميليشيات المدعومة من إيران وبين التيار الصدري. أمّا المشكلة الرئيسية في العراق فهي أنّ الاحتلال يحول دون اجتماع العراقيين حول طاولة للاتفاق على مستقبلهم. لذلك فإنّ انسحاب الاحتلال هو شرط مُسبَق للحديث عن أي حلّ سياسي. فلا حلّ قبل أن يصبح العراق خالياً من الاحتلال.

  • لكن هناك أحزاباً عراقية ذات تمثيل شعبي واسع تطالب الاحتلال بالبقاء، خوفاً من سيطرة القوى الإقليمية.

  • ـــــ هذا يعود إلى الطائفية التي أجّجها الاحتلال، وهذا دليل على أنّ لا حلّ في العراق، كما في لبنان، إلا بالدخول في روزنامة للخروج من الطائفية نحو الدولة الديموقراطية.

  • ماذا عن حقيقة الدور الأوروبي الموسّع في العراق الذي تحدّث عنه كوشنير خلال زيارته الأخيرة إلى بغداد، هل هو دور مساعد للاحتلال لإيجاد مخرج مشرّف؟

  • ـــــ (يضحك بسخرية) مشكلة كوشنير أنه يتكلّم كثيراً، ومعظم الأحيان في أمور لا معنى لها. لا شيء اسمه سياسة أوروبية موحّدة تجاه العراق، وحتّى لا سياسة أوروبية موحّدة في أي موضوع، وخصوصاً في ما يتعلّق بأزمات المنطقة. الحقيقة هي أنّ ما قاله كوشنير في بغداد عن استعداد الأوروبيين لتقديم المساعدة في العراق، هو تكريس للسياسة الأوروبية الخارجية القائمة على دفع تكاليف السياسات الأميركية الكارثية. وتخصّصنا كأوروبيين، بات دفع تكاليف الإمبريالية الأميركية، وخصوصاً في الشرق الأوسط، وأقل ما يُقال في هذا التخصّص هو أنه غبي.

  • وعن علاقة الاتحاد مع سوريا؟

  • ـــــ الموضوع مشابه. فالاتحاد الأوروبي خاضع بعماء للهيمنة الأميركية. فالاتفاق الأورو ـــــ متوسّطي الذي كان يجب توقيعه بين الاتحاد الأوروبي ودمشق عام 2004، عرقلته المواقف الفرنسية والبريطانية تحت ضغط أميركي، وهو ما لم يضرّ بالسوريين، لأنّ دمشق تمكّنت من كسب الوقت، ووقّعت اتفاقات اقتصادية أمّنت لها ما كان على الاتفاق مع أوروبا تأمينه، لكن مع شركاء مختلفين، من دون تقديم أي تنازلات سياسية للغرب في جميع الملفات العالقة في المنطقة.

  • هل كان السبب وراء ذلك هو التدخّل الأميركي لدى الأوروبيين، أم كانت هناك أسباب يقول الأوروبيون إنها تتعلّق بسجلّ النظام السوري مع الديموقراطية وحقوق الانسان؟

  • ـــــ لا علاقة بطبيعة النظام السوري. فالمشكلة تكمن في قلب مؤسسات الاتحاد الأوروبي العاجز عن أن يصبح كتلة سياسية فاعلة، لأنه اتحاد حكومات يمثّل المصالح الاقتصادية والطبقية والسياسية للرساميل الأوروبية، لا اتحاد شعوب.

  • لفتتنا مشاركتك في اللجان النيابية الأوروبية الرسمية التي راقبت نزاهة الانتخابات في لبنان وفلسطين.

  • ـــــ نعم، شاركت في مراقبة الانتخابات النيابية في كل من لبنان (2005) وفلسطين (نهاية 2005)، وأدركت أنّ الانتخابات التي فازت فيها حركة «حماس» كانت الأكثر ديموقراطية على الإطلاق في العالم العربي، حتّى أكثر ديموقراطية من الانتخابات اللبنانية، من حيث عدالة قانون الانتخابات. وأنا من موقعي المراقب، أُصبت بإحباط مخيف، نظراً لأن بلدان الاتحاد الأوروبي قرّرت معاقبة الشعب الفلسطيني على خياره الانتخابي الذي جلب «حماس» إلى السلطة. في المقابل، يصرّ الاتحاد الأوروبي على الاعتراف بنتيجة الانتخابات النيابية في لبنان، والتي شابتها الكوارث، وخصوصاً على صعيد القانون الانتخابي الذي يكرّس الطائفية والمذهبية، والذي ليس فيه شيء من التمثيل الحقيقي.

  • ما هو الدور الذي سيؤديه الاتحاد الأوروبي في «مؤتمر السلام» الذي دعا إليه الرئيس جورج بوش في تشرين الثاني المقبل؟

  • ـــــ أنا متشائم جداً من هذا المؤتمر الذي أتوقّع أن يكون نسخة مكرّرة عن مؤتمر أوسلو الذي عُقد عام 1993، وذلك لأسباب: أولاً، لأن الأوروبيين ليسوا إلا ملحقين بالسياسات الأميركية. وثانياً، لأنّ اللجنة الرباعية هي غطاء دولي للهيمنة والحصرية الأميركية والإسرائيلية في تقرير مصير القضية الفلسطينية، وهي ليست إلا خُرافة اخترعتها أميركا، وأبرز تجليات فشلها هو «خريطة الطريق». وثالثاً، لأن السلطة الفلسطينية مرتمية في أحضان الأميركيين.... والمشكلة الأكبر تكمن عند محمود عباس، الذي يعطي كلّ شيء مجاناً، فيما لا يريد إيهود أولمرت إعطاء شيئاً من حقوق الشعب الفلسطيني. وهنا يحضرني تساؤل: ما العبرة من الموقف الأوروبي الذي يعترف بالرئيس الفلسطيني ويقاطع الرئيس اللبناني؟ وبخصوص التعامل مع الحكومات، تنقلب المعادلة أيضاً. فالاتحاد الأوروبي من خلال تواصله مع الحكومة اللبنانية وعدم اعترافه بحكومة إسماعيل هنيّة، يقدّم أسوأ صورة عن ازدواجية المعايير.

  • ما تقويمك لتجربة «حماس» سياسياً؟

  • ـــــ «حماس» حركة حقّقت تطوّراً سياسياً لا يُصدَّق، من ناحية مزاوجة العمل السياسي مع المقاومة والتنظيم الملتزم، والالتفاف الشعبي حولها، والخطاب المعتدل، بالمقارنة مع جذورها الدينية المتشدّدة. وحقّقت في 5 سنوات ما عجزت عنه حركة «فتح» في عقود طويلة. والطريقة التي ستتطوّر فيها الحركة مستقبلاً ستحدّد الكثير من أوجه الصراع.

  • ألا تعتقد بأنّ حماس ارتكبت «خطأً قاتلاً» باتخاذها قرار الحسم العسكري في قطاع غزة؟

  • ـــــ لا يمكن قول ذلك، لأنّ «حماس» وعلى عكس «فتح»، التزمت جميع تعهّداتها حتى تجاه إسرائيل (استمرار الهدنة التي أعلنتها 18 شهراً من دون أي خرق)، وهي على عكس «فتح» أيضاً مارست الديموقراطية في الحكومتين اللتين أدارتهما رغم الحصار الدولي، وصبرت لفترة طويلة على «فتح» التي شجّعت أحياناً الحصار على حكومة «حماس»، وهي أيضاً على عكس «فتح»، لم تشجّع الطائفية والفساد والعشائرية.




    ميغيل بورتاش من مواليد لشبونة عام 1958. عمل قبل تفرّغه السياسي صحافياً وإعلامياً. وكان للعالم العربي حصّة كبيرة من نشاطه، فأخرج 4 أفلام قصيرة عن التركيبة الدينية والاجتماعية لدول الشرق الأوسط، وخصوصاً لبنان. كذلك نشر أخيراً كتاباً عن لبنان. انتُخب عام 2004 نائباً في البرلمان الأوروبي عن حزب اليسار الأوروبي