غزة ــ رائد لافي
مسيرة الفكر الإسلامي السلفي في قطاع غزة اقتصرت، منذ انطلاقها في أوائل ثمانينات القرن الماضي، على الدعوة السلمية. إلا أن القطاع لم يكن بمنأى عن التغييرات التي طرأت على هذا الفكر عالمياً، وظهور ما يسمى «السلفية الجهادية»، ولا سيما مع بروز نجم تنظيم «القاعدة» في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول عام 2001


يحاول السلفيون في قطاع غزة بشكل حثيث نفي أي علاقة لهم بالسلفية الجهادية، التي يؤمن أتباعها بـ«التغيير بواسطة العنف واستخدام القوة». وينكرون أن يكون أيّ من أتباعهم قد ساهم في تأسيس المجموعات المرتبطة بالسلفية الجهادية، التي بدأت بالظهور إلى العلن في القطاع خلال السنتين الماضيتين، متخذةً أسماءً مختلفة.
ويرى عضو مجلس إدارة دار الكتاب والسنّة الشيخ إبراهيم الأسطل أن «التشدّد صفة لا تنسجم مع المنهج السلفي القائم على الوسطية»، مشيراً إلى أن «السلفية هي منهج الوسط الذي ليس فيه إفراط أو تفريط بل توسط واعتدال».
ويرفض الأسطل أي سلوك فيه تطرف واعتداء على الأفراد أو المؤسسات تحت أي مبرر، موضحاًَ «نحن نرفض المنكر المخالف لشرعنا الحنيف ونحذّر منه عبر الضوابط الشرعية لا عبر التسرع والعاطفة والهيجان، لأن الواجب الشرعي يأمرنا بأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر».
لكنّ كثيراً من السلفيين، الذين ينتهجون الدعوة بالمعروف والطرق السلمية، يرون أن القطاع بمثابة أرضية خصبة لظهور جماعات متشددة ترى نفسها أنها تطبق النهج السلفي عبر محاولة تغيير العادات «السيئة» للمجتمع، التي تخالف الشرع، بالقوة والعنف، على غرار تنظيم «القاعدة».
وقال الداعية الناشط في المجلس العلمي للدعوة السلفية الشيخ فؤاد أبو سعيد إن «الأرضية مناسبة وخصبة في قطاع غزة لنشر أفكار عنيفة بسبب وجود ضحالة في العلم وشيء من التشدد لدى البعض، الذي يقود بدوره إلى ظهور اتجاهات عنيفة». وشدّد على أن «المنكر لا ينكر بمنكر أكبر منه أو مثله»، مشيراً إلى أن «المنكر ينكر إما بالإزالة المطلقة أو بالتخفيف»، نافياً أي علاقة بين السلفيين في القطاع وتنظيم «القاعدة».
وأوضح أبو سعيد أن «إقامة الدولة الإسلامية لا يتم عبر هذا الطريق»، في إشارة إلى النهج العنفي الذي يتبناه «القاعدة»، متسائلاً «أعلنوا الدولة الإسلامية في بعض الدول كأفغانستان والعراق، فماذا كانت النتيجة؟».
وأرجع رئيس مجلس إدارة المجلس العلمي الشيخ ياسين الأسطل نشوء ظاهرة السلفية الجهادية بين الشباب الفلسطيني، إلى عدم خبرة هؤلاء وإلمامهم بالعلم الشرعي. وقال «هؤلاء الشباب لم تحنّكهم التجارب ولم يفقهوا علم الفقه الصحيح، ويريدون الحصول على الثمرة قبل خروج الزهرة. ومن استعجل الشيء قبل أوانه قوبل بحرمانه».
ولا ينكر الأسطل أن «الدين الإسلامي يدعو إلى الجهاد في سبيل الله»، غير أنه يضيف «لكنّ الجهاد لا يقوم به شخص واحد أو حزب أو طائفة أو حتى دولة من الدول الإسلامية بل أن يجتمع المسلمون معاً ويقرروا الجهاد في سبيل الله بعد الإعداد». وأشار إلى أن «القتال لا يجوز إلا خلف رئيس الدولة الذي هو إمام المسلمين والقائد الأعلى للجيوش في الإسلام، ضارباً المثل على ذلك بالحال الفلسطينية التي يُعدّ فيها الرئيس محمود عباس القائد الأعلى للجيوش التي يجب أن تنضم إليها كل الحركات الجهادية والمقاومة». وقال إنه «لا يعلم شيئاً عن التنظيمات السرية التي تنتهج السلفية الجهادية، وتعمل في الخفاء».
«سيوف الحق» و«جيش الإسلام»
يسود اعتقاد واسع في القطاع بأن «جماعة سيوف الحق الإسلامية»، التي أعلنت عن نفسها قبل نحو عام وتخصّصت في ملاحقة «الفساد الأخلاقي» عبر تفجير مقاهي الإنترنت ومتاجر أشرطة الغناء والاعتداء على الفتيات المتبرجات، ذات صلة وثيقة بتنظيم «جيش الإسلام» الذي أسسه ممتاز دغمش في أعقاب الخلافات بين قادة لجان المقاومة الشعبية.
وتُعرّف «جماعة سيوف الحق الإسلامية» نفسها بأنها «مجموعة من المجاهدين تربّوا على الإسلام واتخذوا من كتاب الله وسنة نبيه نهجاً لهم ونوراً لطريقهم وجهادهم المقتصر على الداخل الفلسطيني من أجل تطهير البلاد من بعض تجار الدم والأخلاق والرذيلة».
وأشارت الجماعة، في بيان تعريفي لها نشرته على شبكة الإنترنت، إلى أن قادتها «هم من أبناء أرض الرباط في الداخل ولا علاقة لهم بالخارج أو أي قرار لا يصبّ في مصلحة الإسلام وأن أفرادها المجاهدين لا يتبعون لأي تنظيم على الساحة الفلسطينية»، رغم مؤشرات كثيرة حول علاقة الجماعة بجيش الإسلام الذي يتبنى فكراً متشدّداً.
وقالت الجماعة إنها قامت على «مبدأ تطبيق شرع الله في أرضه وأخذت على عاتقها إنهاء الفساد بكل أشكاله في أرض الرباط وبالوسائل التي تراها مناسبة ولا تتعارض مع الشريعة الإسلامية وبالأساليب القاسية التي أصبح لا بد منها في وجه بعض الفاسدين الذين اتبعوا الشيطان وسولت لهم أنفسهم زرع الهلاك في أجساد شباب الإسلام وأهله».
وكان ممتاز دغمش، الذي عمل سابقاً في جهاز الأمن الوقائي، قبل أن يصبح قائداً في «لجان المقاومة الشعبية»، قد أسّس تنظيم «جيش الإسلام» قبل نحو عامين، عقب الخلاف الداخلي بين قادة اللجان.
وبرز نجم التنظيم، الذي يضم غالبيته أفراداً من عائلة دغمش، خلال مشاركته حركة «حماس» ولجان المقاومة الشعبية في عملية «الوهم المتبدّد» الفدائية وأسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في 25 حزيران 2006. لكن العلاقة المميزة التي كانت تربط التنظيم مع حركة «حماس» لم تدم طويلاً، لتنقلب إلى عداء شديد بفعل قتل عناصر من «حماس» اثنين من عائلته من عناصر «فتح»، في سياق موجات الاقتتال الداخلي بين الحركتين في القطاع.
وظلّ «جيش الإسلام» تنظيماً هامشياً نظراً لقلة عدد أتباعه وعناصره وانحصاره في منطقة واحدة في مدينة غزة هي «حي الصبرة»، إلى أن أصبح فجأة محل اهتمام وسائل الإعلام، وذاع صيته في أرجاء المعمورة، عقب اختطافه مراسل «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) الصحافي الاسكتلندي آلان جونستون في غزة في 12 آذار الماضي، وهي العملية التي كشفت عن الوجه الحقيقي للتنظيم، الذي أثبت بالبيان القاطع ارتباطه بتنظيم «القاعدة»، عندما رهن الإفراج عن جونستون بالإفراج عن ثلاثة من قادة «القاعدة» في السجون الأردنية والبريطانية، وتهديده بقتل جونستون في حال عدم استجابة الأطراف المعنيين لمطالبه، مستخدماً في ذلك أساليب «القاعدة» عبر نشر التسجيلات المصوّرة والصوتية للرهينة.
لكن التنظيم لم يفلح في تحقيق مطالبه، بل فشل في مواجهة حركة «حماس» بعد سيطرتها في 14 حزيران الماضي على القطاع، حيث نجحت في تحرير جونستون بلا مقابل.
ومنذ سقوط القطاع في قبضة «حماس»، لم ينفّذ التنظيم أي عملية أو حادثة تستحق تسليط الأضواء عليها. وبحسب مصادر في «حماس»، فإن الحركة اشترطت عليه في صفقة إطلاق جونستون عدم القيام بأي عمل داخلي اذا ما أراد الاحتفاظ بالسلاح، وعدم اضطرار الحركة إلى التعامل معه كسلاح خارج عن الشرعية.
«التكفير والهجرة»
يقول العارفون ببواطن الأمور والمتابعون لنشاطات الجماعات الإسلامية إن هناك نشاطاً محدوداً وغير ظاهر لجماعة «التكفير والهجرة» في القطاع، حيث يعيش أتباعها في مجتمع مغلق، ويتركزون في المناطق الجنوبية، وخصوصاً في مدينتي خان يونس ورفح.
ولا يمكن حصر عدد أتباع الجماعة، التي تعيش في مكان شبه منعزل عن الناس أو المجتمع، الذي يعتبرونه كافرا ويحاولون عدم الاحتكاك به. وتعدّ جماعة «التكفير والهجرة»، التي ظهرت في القطاع أواخر السبعينيات، امتداداً طبيعياً للجماعة التي تحمل الاسم نفسه وأُسّست في مصر في ستينات القرن الماضي.
ونشطت جماعة التكفير والهجرة المصرية بقوة بعد إعدام سيد قطب عام 1966، عندما آمنت بالفكرة مجموعة من الفلسطينيين الذين كانوا يدرسون في الجامعات المصرية آنذاك، وحاولوا الترويج لها ونشرها بعد العودة إلى القطاع. لكن دعوتهم ظلت محصورة بفعل عدائها الشديد للمجتمع بوصفه «مجتمعاً كافراً»، لكون «المجتمع لم يكفّر ولاة الأمر، الذين لا يحكمون بما أمر الله»، لذا فإنهم يرفضون التعامل معه أو الانخراط فيه، ويقبلون على الزواج بعضهم من بعض وتنتشر بينهم ظاهرة تعدّد الزوجات.
وبحسب الباحث المهتم بشؤون الجماعات الإسلامية الشيخ نادر أبو شرخ، فإن أتباع جماعة «التكفير والهجرة» لا يرسلون أبناءهم الى المدارس، ويحاولون الاعتماد على أنفسهم قدر المستطاع في التعليم، ولا يلجأون الى الأطباء والمستشفيات ويستعيضون عن ذلك بالتداوي بالطب الشعبي والأعشاب.
وقال أبو شرخ إن «جماعة التكفير والهجرة لا تنتهج العمل في السياسة، وليس لها أي نشاطات مرتبطة بمقاومة الاحتلال، على غرار الكثير من الجماعات السلفية، وحزب التحرير الإسلامي».
حزب التحرير الإسلامي
يعود تاريخ تأسيس «حزب التحرير الإسلامي» إلى عام 1953، على يد القاضي تقي الدين النبهاني في مدينة القدس المحتلة. وبحسب أبجديات الحزب، فإنه يعمل على «إنهاض الأمة الإسلامية من الانحدار الشديد الذي وصلت إليه، وتحريرها من أفكار الكفر وأنظمته وأحكامه، ومن سيطرة الدول الكافرة ونفوذها، وذلك بغية العمل لإعادة دولة الخلافة الإسلامية إلى الوجود، حتى يعود الحكم بما أنزل الله».
ويهدف الحزب إلى «إنهاض الأمة النهضة الصحيحة، بالفكر المستنير، ويسعى إلى أن يعيدها إلى سابق عزّها ومجدها، بحيث تنتزع زمام المبادرة من الدول والأمم والشعوب، وتعود الدولة الأولى في العالم، كما كانت في السابق، تسوسه وفق أحكام الإسلام».
وقال أحد قادة الحزب في القطاع، مكتفياً بذكر كنيته «أبو محمد»، إن «الحزب يعمل على حمل الدعوة الإسلامية، لتغيير واقع المجتمع الفاسد وتحويله إلى مجتمع إسلامي، بتغيير الأفكار الموجودة فيه إلى أفكار إسلامية، حتى تصبح رأياً عاماً عند الناس ومفاهيمهم تدفعهم إلى تطبيقها والعمل بمقتضاها، وتغيير المشاعر فيه حتى تصبح مشاعر إسلامية ترضى بما يُرضي الله وتثور وتغضب لما يغضب الله، وتغيير العلاقات فيه حتى تصبح علاقات إسلامية تسير وفق أحكام الإسلام ومعالجاته».
ويعرف عن أنصار حزب التحرير قدرتهم الكبيرة على «المجادلة» والنقاش لساعات طويلة، باستخدام الأدلة الشرعية الظاهرة، التي تدعم فكره في السعي إلى الهدف الوحيد الذي يعمل على تطبيقه وهو إقامة الخلافة الإسلامية، ويعدّ كل ما دون ذلك من أهداف مجرد «عبث» وتضييعاً للجهد واستنزافاً للوقت.
ويعارض الحزب المشاركة في الحياة السياسية والانتخابات بأشكالها في الدول التي يعمل فيها، بما في ذلك فلسطين، بل إنه شنّ هجوماً لاذعاً على حركة «حماس» لمشاركتها في الانتخابات التشريعية الثانية مطلع العام الماضي. وبحسب أبو محمد، فإن الحزب ينظر إلى الانتخابات على أنها «حرام شرعاً».
وأشار أبو محمد إلى أن الحزب يرى وجوب اتّباع طريقة سير النبي محمد في حمل الدعوة، كطريق وحيد لاستعادة دولة الخلافة الإسلامية. ورأى أنه «لكون المسلمين اليوم يعيشون في دار كفر، لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، فإن دارهم تشبه مكة حين بعثة الرسول». وقال إن الحزب يعمل بناءً على ذلك على ثلاث مراحل، وهي مرحلة التثقيف لإيجاد أشخاص مؤمنين بفكرة الحزب وطريقته لتكوين الكتلة الحزبية، ومرحلة التفاعل مع الأمة، لتحميلها الإسلام، حتى تتخذه قضية لها، وكي تعمل على إيجاده في واقع الحياة، ومرحلة تسلّم الحكم، وتطبيق الإسلام تطبيقاً عاماً شاملاً، وحمله رسالة إلى العالم.
وظل الحزب بعيداً عن النشاطات الميدانية في التعبير عن أفكاره والمبادئ التي يؤمن بها، إلى أن ظهر قبل بضعة شهور في ذكرى مرور 85 عاماً على سقوط الخلافة الإسلامية (العثمانية) على يد مؤسس تركيا الحديثة (العلمانية) مصطفى كمال أتاتورك، حيث خرج أنصار الحزب في مسيرات في الضفة والقطاع، رافعين رايات ولافتات تدعو إلى العمل لإحياء الخلافة الإسلامية وإعادتها.
ويختلف حزب التحرير في نظرته إلى قضية فلسطين عن باقي الحركات والجماعات الفلسطينية الإسلامية والوطنية على حد سواء، فهو لا يرى أنها «قضية مركزية». وبحسب أبو محمد، فإن الحزب ينظر إلى قضية فلسطين كباقي قضايا المسلمين في العالم مثل قضايا كشمير وأفغانستان والفيليبين وغيرها، على اعتبار أنه لا قضية مركزية للمسلمن حالياً سوى العمل على إقامة الخلافة الإسلامية.
ووفقاً لأبو محمد، فإن الحزب يرى أن الجهاد ليس واجباً على الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي في هذه الأثناء، لكونهم في «حكم الأسرى شرعاً»، مشيراً إلى أن الجهاد كان واجباً على المسلمين عامة عندما دهمت العصابات الصهيونية أرض فلسطين عام 48، لا بعد وقوعها بالكامل تحت الاحتلال. غير أن الحزب لا ينكر عمل من يستطيع الجهاد ضد المحتل.
رؤية من الخارج
ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر ناجي شراب أن «ظاهرة السلفية في القطاع غير متكاملة، ولا صورة واضحة حول طبيعة الجماعات التي تحاول أن تربط نفسها بالإطار العام للحركة السلفية في العالم الإسلامي». ويضيف إن «البيئة السياسية الفلسطينية التي تواجه الحصار والبطالة ويتراجع فيها أداء القانون تسمح بزيادة عدد هذه الجماعات التي لا دراسات دقيقة في خصوص عدد أتباعها، ومصادر تمويلها وعلاقاتها الداخلية والخارجية».
ولم يُخفِ شراب تخوفه من المستقبل والمؤشرات القوية في القطاع إلى بزوغ جماعات متشددة تنتهج التغيير بواسطة العنف بشكل منظّم، يفوق ما تمارسه بعض الجماعات الصغيرة في الوقت الراهن، وذلك بفعل «الانهيار الذي يتهدّد المنظومة الاجتماعية وغياب أفق انفراج الأزمة الداخلية، الأمر الذي يدفع فئة الشباب إلى الارتماء في أحضان هذه الجماعات للهروب من الواقع المؤلم».
ويعارض شراب «طريقة أداء مؤسسات التعليم والمساجد والحرية المطلقة التي تميز عملها، وسعيها إلى غرس قيم سلوكية معينة في نفوس فئة الشباب والأطفال، ما يستدعي العمل الحثيث من جانب الطبقة المثقفة والدعاة الوسطيين إلى بذل جهد مضاعف في إبراز الصورة الحقيقية للإسلام».

اجزاء ملف "إسلاميّو غزّة":
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالت | الجزء الرابع