موسكو ــ حبيب فوعاني
هل عادت لعبة القط والفأر لتأخذ مجراها بين طهران وموسكو حول بناء محطة بوشهر الكهروذرية التي تقوم شركة روسية ببنائها في جنوب إيران؟ أم إن التباين الواضح بين تصريحات مسؤولي البلدين حول موعد التشغيل، هو بمثابة جسّ نبض أرادت منه طهران استكشاف الموقف الروسي من استكمال هذا المشروع المعلّق منذ أشهر؟


م يكد مدير مشروع محطة بوشهر الكهروذرية الإيرانية محمود جعفري يُصرّح بأن المحطة يمكن تشغيلها في الخريف المقبل، حتى جاء الردّ الروسي سريعاً، ليدحض هذه الادعاءات، مشيراً الى استحالة تشغيل المحطة بحلول هذا التاريخ، في وقت يتضح فيه وجود أصابع للاستخبارات الأميركية في مراكز القرار الروسي تساهم في عرقلة هذه الشراكة بين روسيا وإيران.
وقال رئيس شركة «إينيرغو بروغريس» الروسية، التي تتولّى بناء محطة بوشهر في جنوب إيران باتفاق مقاولة مع شركة «آتوم ستروي إكسبورت» الروسية، إيفان إيستومين، أمس إن بناء المحطة لن يكتمل قبل خريف عام 2008، مشدداً على استحالة تشغيلها في خريف عام 2007، وذلك «بسبب مشكلة التمويل والمماطلة في توريد الأجهزة والمعدات اللازمة إلى المحطة من دول ثالثة».
وقال إيستومين، لوكالة «نوفوستي» الروسية للأنباء، «يمكن القول اليوم بشكل واضح جداً إن تسليم المحطة لتشغيلها في خريف هذا العام أمر غير واقعي».
وكان مدير مشروع المحطة الإيراني قد ذكر أن المشروع أصبح جاهزاً بنسبة 93.6 في المئة، وأن المحطة يمكن تشغيلها بعد وصول الوقود النووي من روسيا، مشيراً الى أن التشغيل سيتم في أيلول ـــــ تشرين الأول من العام الجاري، وفقاً لما ينص عليه الجدول الزمني للمشروع.
ولهذه الغاية، توجّه مفاوضان إيرانيان الى موسكو أول من أمس لمحاولة إقناع روسيا باستكمال بناء المفاعل.
وبدأت قصة مفاعل بوشهر عام 1974، قبل نجاح الثورة الإسلامية. حينها تولت شركة «سيمينس» الألمانية بناءها، في إطار خطة ضخمة لبناء 24 مفاعلاً نووياً تقوم بتغطية حاجات إيران من الطاقة الكهربائية.
وبعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، كان المفاعل الأول من المحطة، بشهادة المصادر الروسية الإعلامية، جاهزاً بنسبة 85 في المئة والثاني بنسبة 65 في المئة، لكنّ الخبراء الألمان، وبسبب الضغوط الأميركية، رفضوا إكمال المشروع. ولم تنجح المفاوضات مع الصين والبرازيل في تحقيق أي نتيجة بشأن إتمام بناء المفاعل.
لكن في شتاء عام 1995، وعلى الرغم من الضغوط الهائلة من جانب الولايات المتحدة، التي حاولت عدم السماح بمشاركة روسيا في تطوير طاقة إيران النووية، وقّعت موسكو وطهران عقداً حول إكمال بناء المفاعل الأول في محطة بوشهر، وذلك في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، رغم ما يقال عنه بأنه خانع و«منبطح» أمام الغرب.
ويمكن القول إن هذا التعاون النووي بين البلدين قد تم بفضل شخصين وقفا وراء كواليس هذا النجاح، هما: وزير الطاقة النووية الروسي يفغيني آداموف ونائب الرئيس الإيراني غلام رضا أغازاده، فيما كانت الضغوط الأميركية في هذه المرحلة مكشوفة؛ إذ كان الأميركيون يعدّون دوماً الامتناع عن بناء بوشهر شرطاً أساسياً للمشاركة في مشاريع مفيدة لروسيا في مجال الطاقة أو لتمويلها. لهذا، ضحّت موسكو بمشروع روسي ـــــ أميركي مشترك لبناء مفاعل اختبارات نووي في منطقة الأورال الروسية.
وفي أيار عام 2005، ألقت السلطات السويسرية القبض على الوزير الروسي السابق في مدينة بيرن بطلب من وزارة العدل الأميركية، التي اتهمته بالاستيلاء على تسعة ملايين دولار صرفتها وزارة الطاقة الأميركية لروسيا لتطوير برامج الأمن النووي. وأمضى آداموف 8 أشهر وراء القضبان السويسرية. ثم عاد الى وطنه رغم محاولات القضاء الأميركي تسلّمه من سويسرا.
وبعد تجاوزها للضغوط الأميركية المتواصلة، واصلت روسيا بناء المفاعل. بيد أن مواعيد التسليم أُجلّت غير مرة. في البداية، افترض تشغيل المحطة عام 2002، ثم عام 2003. وأخيراً جرت مفاوضات في نهاية عام 2006 بين آغا زاده ورئيس شركة «آتوم ستروي إكسبورت» سيرغي شماتكو، وتم التوصل إلى اتفاق مبدئي على أن تجري الأعمال وفق برنامج زمني محدد وتنتهي في أيلول 2007، بعد أن تكون روسيا قد ورّدت إلى إيران الدفعة الأولى من الوقود النووي اللازم للمحطة في أيار من العام نفسه.
لكن ذلك لم يحدث، وبدلاً من الوقود الموعود، انهالت روسيا فجأةً على إيران بسلسلة من الاتهامات، أبرزها المماطلة في تمويل المشروع وعدم دفع 22 مليون دولار للجانب الروسي. وبدا هذا الاتهام سخيفاً لأن إيران صرفت حتى حينه زهاء المليار دولار على المشروع. وعلق آداموف على المشروع الإيراني «هو الوحيد، الذي يتم تسديده. في حين أن مشروعين هندي وصيني، كان يجب أن يمولا بقروض روسية وفقاً للاتفاقية السوفياتية بشأنهما. أما هنا فيتم الدفع نقداً»، مضيفاً «الإيرانيون كانوا يدفعون بشكل جيد، ولا أرى أي مشكلات».
لكنّ «آتوم ستروي إكسبورت» فضلّت بدلاً من توريد الوقود النووي افتعال أزمة في أيار الماضي مع إيران، ما اعتبرته طهران طعنة في الظهر.
فما الذي أجبر روسيا على المخاطرة بعلاقاتها الجيدة مع إيران، التي تحتاج إلى شراكتها في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز ومنطقة بحر قزوين؟
يبدو أن الأمر متعلق بقوى موالية للولايات المتحدة في النخبة السياسية الروسية، حافظت على مواقعها بعد ترك يلتسين منصبه الرئاسي عام 2000.
واللافت للنظر أن الإمبراطورية المالية الروسية «ألفا ـــــ غروب» والعائدة إلى رجل الأعمال الروسي ميخائيل فريدمان هي التي تقوم بالإشراف على الحسابات المصرفية للوكالة الفدرالية للطاقة النووية الروسية «روس آتوم»، والتي تدخل في بنيتها «آتوم ستروي إكسبورت».
ووفقاً للمصادر الإعلامية الروسية، فإن إدارة هذه المجموعة المصرفية تضم في صفوفها وبشكل مباشر مواطنين أميركيين مقربين جداً من عالم الاستخبارات الأميركية، وهناك علاقات مباشرة بين مسؤولي «ألفا ـــــ غروب» ونائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ومسؤولي شركة «هاليبرتون».
وكانت صحيفة «زافترا» قد أشارت في 23 تموز 2001، إلى وجود علاقة وثيقة بين فريدمان والشخص الثاني في «ألفا ـــــ غروب» بيوتر آفين مع ممثلي رأس المال اليهودي على الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة.
وذكر الموقع الإلكتروني «سترينغير» والعائد إلى رئيس حرس الرئيس يلتسين، ألكسندر كورجاكوف، في 25 حزيران 2003 أن «الكاردينال الرمادي» الحالي فلاديسلاف سوركوف، الذي عين في أيام يلتسين في الإدارة الرئاسية حيث بقي يعمل حتى الآن، من بين المؤيدين المتحمسين للتعاون مع الولايات المتحدة والمعادين للتعاون مع إيران.
وعلى أي حال، يبدو أن هذه القوى نجحت في وضع العصي في عجلات هذا المشروع، الذي يظهر أن الحديث الجدي عن مصيره لن يتم قبل تبيان الخيط الأبيض من الأسود في الانتخابات الرئاسية الروسية في آذار المقبل.