strong>غزة ـــ رائد لافي
حالة الصراع الأمني الفلسطيني ناجمة عن عملية تراكمية خلال 13 عاماً من عمر السلطة، لم تؤدّ خلالها الأجهزة الجزء الأساس من وظيفتها وهو حفظ الأمن، فكانت أدوات صراع داخلي بين الفلسطينيين أنفسهم، حتى وصلت الأمور إلى درجة لم يعد بالإمكان السيطرة عليها

  • عملية دمج فرضها الخارج على السلطة الفلسطينية لم تنهِ 13 عاماً من صدام الصلاحيات

    عندما يطلق أحد قادة حركة «فتح» والرئيس السابق لجهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية جبريل الرجوب لقب «أمراء الأمن» على قادة الأجهزة، فإنه يضع يده على الجرح، من دون حاجة إلى مزيد من التفصيل حول مدى الترهل والفساد الذي ينخر في عضد المؤسسة الأمنية الفلسطينية والقائمين عليها.
    لقد تحوّلت معظم أجهزة الأمن الفلسطينية على مدار 13 عاماً من عمر السلطة الوطنية، إلى ملكية خاصة لقادتها، ومرتع لأبنائهم والموالين لهم، يتصرفون في مقدراتها كيفما شاؤوا من دون حسيب أو رقيب، بسبب غياب أدوات المساءلة القانونية، وربما الوطنية.
    وفقدت أجهزة الأمن الهيبة والاحترام من جانب الفلسطينيين، وخصوصاً خلال انتفاضة الأقصى، حيث انكشفت هشاشة هذا البناء الأمني، الذي تصرف بقوة وحزم شديدين في السنوات الأولى من تأسيس السلطة إزاء محاربة فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمها حركة «حماس»، حيث برز تنافس محموم بين الأجهزة الأمنية إزاء الزج بقادة المقاومة وعناصرها في السجون في إطار ما كان يعرف بـ «التنسيق الأمني».
    وفي المقابل، تناسى قادة الأمن وعناصره، أو معظمهم، مهمتهم الأساسية المتمثلة في حفظ الأمن وإرساء قواعد النظام والقانون، فاستغلّوا مناصبهم ووظائفهم في إرهاب المواطنين، وفرض «أتاوات» على التجار ورجال الأعمال، وساهم الكثيرون منهم في تنامي ظاهرة الفلتان الأمني.
    12 جهازاًوظلّت هذه الأجهزة تعمل بشكل غير منتظم، ووسط حالة من العشوائية جراء عدم وضوح الصلاحيات المنوطة بكل جهاز، والتنافس السلبي الحاد بين قادتها، الذين كان كل واحد منهم على ارتباط مباشر بالزعيم الراحل ياسر عرفات، الذي كان ممسكاً بخيوط اللعبة «أمنياً ومالياً»، لضمان الولاء له شخصياً.
    وقال الباحث الحقوقي في الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن، مصطفى ابراهيم، إن «الوضع الأمني ظلّ على حاله حتى قيام قوات الاحتلال الاسرائيلي بعملية السور الواقي العدوانية في الضفة الغربية في 29 آذار من عام 2002، التي استمرت نحو شهر، وجرى خلالها حصار الرئيس عرفات في مقر المقاطعة في مدينة رام الله حتى الأول من أيار من العام ذاته، وعندها رفعت الدولة العبرية الحصار بعد انجاز صفقة وضع المسؤول المالي لقوات الأمن العام فؤاد الشوبكي، والأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات ورفاقه الأربعة المتهمين بقتل وزير السياحة الاسرائيلي السابق رحبعام زئيفي، رهن الاعتقال تحت حراسة أميركية ـــ بريطانية في سجن أريحا الفلسطيني، وإتمام صفقة كنيسة المهد التي تم بموجبها ابعاد 26 فلسطينياً إلى غزة، و13 آخرين إلى أوروبا»
    وبحسب ابراهيم، فإن المجتمع الدولي، الذي بدأ في حينه يفقد ثقته في عرفات وقدرته على انجاز السلام مع إسرائيل، أراد استثمار نتائج عملية السور الواقي، بالضغط على عرفات لانتزاع أهم ورقتين من يده ممثلتين في المال والأمن، مشيراً إلى أنه تم فرض سلام فياض، الموظف الكبير في صندوق النقد الدولي، لمنصب وزير المال في حكومة تألفت في حزيران 2002، بدلاً من محمد زهدي النشاشيبي، الذي ظل وزيراً للمال منذ قيام السلطة.
    وأضاف ابراهيم «في الموضوع الأمني، سعى المجتمع الدولي إلى الضغط على عرفات لدمج الأجهزة الأمنية في 3 أجهزة فقط، فضلاً عن السعي الدولي بقيادة الولايات المتحدة إلى انتزاع المزيد من الصلاحيات من عرفات لمصلحة شخصية هم يرويدونها وهو الرئيس الحالي محمود عباس، فأرغم عرفات على اقناع المجلس التشريعي بتعديل القانون الأساسي (الدستور المؤقت)، واستحداث منصب رئيس الوزراء».
    وتماشياً مع الضغط الدولي، واستجابة لما نصت عليه «خريطة الطريق»، تم دمج الأجهزة الأمنية في 3 أجهزة فقط، هي جهاز الأمن الداخلي، ويضم الشرطة والأمن الوقائي والدفاع المدني (وتتبع وزارة الداخلية)، والمخابرات العامة، وقوات الأمن الوطني (وتتبعان الرئاسة).
    وقال إبراهيم «إن المجتمع الدولي مارس مزيداً من الضغوط على عرفات لتعيين عباس رئيساً للوزراء، ومنح الصلاحيات الأمنية لوزير داخلية قوي في الحكومة الجديدة هو القيادي البارز في حركة «فتح» محمد دحلان، لكن عرفات رفض الأمر بقوة، إلى أن تم التوصل إلى تسوية بإسناد حقيبة مستحدثة لدحلان باسم وزارة الشؤون الأمنية»، مشيراً إلى أن «عباس الذي احتفظ لنفسه بحقيبة الداخلية، لجأ بعد نيل حكومته الثقة إلى إعطاء دحلان الصلاحيات الامنية لوزير الداخلية، حيث عمد الأخير إلى تغيير قادة الأجهزة وتعيين مقربين منه. فقد عين، على سبيل المثال، العميد محمود عصفور مديراً للشرطة بدلاً من اللواء غازي الجبالي، وعين النائب الحالي عن حركة «فتح» ماجد أبو شمالة مديراً عاماً للمباحث الجنائية، فيما استحدث منصب المراقب العام لوزارة الداخلية وأسنده لسمير مشهراوي أحد أبرز رجالاته».
    لكن حكومة عباس لم تدم طويلاً، إذ استمرت بعد نيلها الثقة في آذار 2003، إلى أن قدم عباس استقالته في السادس من أيلول من العام نفسه، بفعل العراقيل التي وضعها عرفات في طريقه، والتحريض الكبير الذي مورس من أنصار عرفات على عباس، والذين رأوا فيه «قرضاي فلسطينياً»، في إشارة إلى الرئيس الأفغاني حميد قرضاي، الذي جاء على ظهر دبابة أميركية. وقبل عرفات استقالة عباس، وكلف رئيس المجلس التشريعي في حينه وأحد مقربيه أحمد قريع بتأليف الحكومة الجديدة التي لم تعمر طويلاً، فكلفه مجدداً بتأليف حكومة أخرى استمرت حتى فوز حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية الثانية مطلع العام الماضي، وأسند خلالها قريع حقيبة الداخلية إلى عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» نصر يوسف، استجابةً لضغط خارجي، ومن دون رغبة عرفات.
    استفراد أمني
    الحالة السيئة في أوساط أجهزة الأمن الفلسطينية، التي تضم أكثر من 78 ألف عنصر، وتستنزف نسبة 38 في المئة من موازنة السلطة، لم تنته بدمج الأجهزة، حيث كان هذا الدمج بمثابة حبر على ورق، فيما ظل كل جهاز مستقلاً بذاته وبقادته وعناصره، وسط تداخل الصلاحيات والمهام وتناقضها، حتى فازت حركة «حماس» وألّفت الحكومة العاشرة، لتنكشف حقيقة البناء الأمني القائم على الولاءات الشخصية والحزبية.
    وظهرت أولى العقبات في وجه حركة «حماس» من خلال العصيان الذي جوبه به وزير الداخلية السابق سعيد صيام، عبر رفض الأجهزة الأمنية التابعة له وهي (الشرطة والأمن الوقائي والدفاع المدني) تنفيذ تعليماته.
    ووقع خلاف حول مرجعية قوات الأمن الوطني، التي أسندت قيادتها إلى وزير الداخلية السابق نصر يوسف؛ ففيما كانت حركة «حماس» تطالب بضمها إلى وزارة الداخلية، أصرّت حركة «فتح» ومؤسسة الرئاسة على أنها وجهاز المخابرات العامة تتبعان للرئاسة لا للداخلية.
    وفي ظل هذه الحال، لجأ صيام إلى إنشاء القوة التنفيذية، وقوامها 5500 عنصر، جلهم من عناصر «كتائب عز الدين القسام» الذراع العسكرية لحركة «حماس»، في محاولة للتغلب على عصيان الأجهزة الأمنية الرسمية. غير أن هذه القوة كانت عاملاً في تنامي الاقتتال الداخلي ومظاهر الفلتان الأمني، جراء رفضها من جانب الأجهزة الأمنية، التي رأت فيها منافساً خارجياً لها في الساحة الفلسطينية، فتوحدت هذه الأجهزة خلف هدف إفشال مهمة القوة التنفيذية، التي لم تكن بريئة تماماً من الحالة السيئة التي لحقت بالوضع الأمني الداخلي، جراء تعامل عناصرها بردّات فعل متسرعة وأحياناً جنونية، دافعهم في ذلك التعصب الحزبي، مثلما حصل في حادثة اغتيال العميد محمد غريب، القائد في جهاز الأمن الوقائي، بعد محاصرة منزله نحو عشر ساعات متواصلة وقتله مع ثمانية آخرين.


    الأجهزة المسيطرة

    في ما يأتي الأجهزة الأمنية الفلسطينية الرئيسة وقادتها:
  • جهاز الأمن الداخلي: يضم في إطاره ثلاثة أجهزة هي الدفاع المدني والشرطة والأمن الوقائي، ويرأسه العميد رشيد أبو شباك أحد أقرب المقربين من النائب محمد دحلان. ومنصب مدير الأمن الداخلي الذي يحتله أبو شباك، هو منصب مستحدث بموجب قانون الخدمة في قوى الأمن الفلسطينية رقم 8/2005. وكان الرئيس محمود عباس قد استبق تأليف حركة «حماس» الحكومة السابقة (العاشرة) في آذار الماضي، بتعيين أبو شباك في هذا المنصب، الأمر الذي رأته «حماس» في حينه محاولة لعرقلة عمل وزير الداخلية السابق سعيد صيام، حيث تبع هذا التعيين صراع عنيف على الصلاحيات الأمنية، في ظل سيطرة أبو شباك على مفاصل الحياة الأمنية كلها، وما نجم عن ذلك من رفض الأجهزة الأمنية لتعليمات صيام، الأمر الذي اضطره إلى إنشاء القوة التنفيذية.
    وظهر بعد تأليف حكومة الوحدة الوطنية في 17 آذار الماضي، وتولّي هاني القواسمي «المستقل» منصب وزير الداخلية، مدى التداخل والتناقض في صلاحيات منصبي وزير الداخلية ومدير الأمن الداخلي، الأمر الذي شعر معه القواسمي بالإحباط ودفع به إلى تقديم الاستقالة.
    وتنص المادة 10 من قانون الخدمة في قوى الأمن الفلسطينية المذكور، على أن الأمن الداخلي هو «هيئة أمنية نظامية تؤدي وظائفها وتباشر اختصاصاتها برئاسة وزير الداخلية وبقيادة مدير الأمن الداخلي، وهو الذي يصدر القرارات اللازمة لإدارة عملها وتنظيم شؤونها كلها».

  • جهاز الأمن الوقائي: يرأسه العميد زياد هب الريح من سكان مدينة رام الله في الضف الغربية، ونائبه هو العقيد يوسف عيسى. يعدّ الجهاز، الذي يضم نحو 3 آلاف عنصر، الجهاز الأمني القوي لحركة «فتح» ويدين بالولاء لمحمد دحلان، ومعظم عناصره من نشطاء حركة «فتح» من الداخل، بخلاف الأجهزة الأمنية الأخرى، التي تعتمد على العائدين مع تأسيس السلطة في عام 1994.

  • جهاز المخابرات العامة: يرأسه نظرياً اللواء طارق أبو رجب، الذي يعالج حالياً في فرنسا، بعد نجاته من محاولة الاغتيال الثانية التي تعرض لها في غضون ثلاث سنوات، عندما فجر مجهولون مصعده الخاص في مقر المخابرات «الحصين» في منطقة السوادنية على شاطئ البحر شمالي مدينة غزة، قبل نحو عام ونصف العام.
    أما عملياً، فيقود الجهاز المكون من نحو 2500 عنصر، العميد توفيق الطيراوي من سكان الضفة الغربية، ويتبع الجهاز، بحسب القانون الأساسي (الدستور المؤقت)، لمؤسسة الرئاسة.

  • حرس الرئاسة: يرأسه في قطاع غزة العميد مصباح البحيصي، ويضم في عضويته نحو 3 آلاف عنصر، ويعدّ من أكثر الأجهزة الأمنية الفلسطينية تجهيزاً وتدريباً، حيث يتلقى أفراده باستمرار دورات تدريبية في الخارج، ويدين بالولاء للرئيس محمود عباس، وتتهمه حركة «حماس» بقيادة جبهة الرئاسة وحركة «فتح»، إلى جانب جهاز الأمن الوقائي، خلال مرحلة الاقتتال الداخلي.