بغداد ــ الأخبار
قد تغني قصة قصيرة بسيطة المفردات عن الكثير من المقالات والتحليلات السياسية، ولا سيما إذا انطلقت من واقع حياتي، وفي بقعة صغيرة، قد تكون هي العراق كله، كيف كان قبيل الغزو، وخلاله، ومن ثم مجيء الاحتلال وما أفرزه من تخلخل اجتماعي؟

المكان هو قرية صغيرة هادئة وديعة في شمال غرب بغداد اسمها «سيد ابراهيم». الراوية الفتاة «الجنوبية» سيناء كاظم، التي تابعت بالتسلسل، وبتفحص فطري، ما جرى وما يجري. وكيف تحوّل الصمت والهدوء في القرية إلى عبث مقصود بالممتلكات العامة، وتدرّج الحال إلى تشكيل «مافيا ما بعد الحرب»، لتقابله في ما بعد معاداة سافرة ومقاومة مسلحة.
حين دعيت كاظم ذات يوم مع أهلها لتناول الغداء عند عائلة صديقة في قرية «سيد ابراهيم» التابعة لقضاء الفلوجة، كان كل شيء جديداً عليها، إذ لم تجد أمامها مفردات قرى جنوب أو وسط العراق التي اعتادتها، كوفرة النخيل والأنهار والبساتين، بل وجدت شوارع مبلّطة ومنازل امتدت لها يد الحضارة والكثير الكثير من المواشي «السمينة». ووجدت اختلاطاً أكبر بين الرجال والنساء، وحرية أكثر وضوحاً للمرأة.
تُرى ما الذي جعل هذه القرية أكثر حضارة من قرى أجدادها؟ ردّ شقيقها على تساؤلاتها بالقول إن «الحكومة اهتمت دائماً بالمنطقة الغربية التي انحدر (الرئيس العراقي السابق) صدام (حسين) من إحدى قراها، أكثر من اهتمامها بقرى مناطق الوسط والجنوب».
في القائمة السوداء
لم يقنعها هذا الجواب، إذ لم تجد آثار حكومة أو بصمات سلطة على تلك البقعة الجميلة. وتأكدت أكثر حين روى لها معارف في محافظة صلاح الدين (تكريت) ما فعلته السلطة بمعارضيها الذين وضعتهم في «القائمة السوداء». وحينذاك، أدركت أن الحكومة ليست بالضرورة مع محافظة أو بقعة معينة، بل مع الذين يجاهرون أكثر بالولاء لها. لأن تكريت نفسها لم تسلم من البطش، وحتى قرية «العوجة»، التي قتل صدام الكثير من أبنائها. أدركت أن هناك «عدالة» إلى حد كبير في القتل والترويع، موزعة على جميع ذرات تراب العراق.
وبعد مدة، عادت كاظم إلى القرية نفسها، زوجة لابن العائلة الصديقة. عادت لتعيش تحدياً حقيقياً، حين ألقت بنفسها في لجة واقع جديد ومختلف، لكن أكثر ما يلفت الانتباه فيه هو الطابع الديني السائد، بلا تنظيرات ولا تفقه ولا تعقيد، طابع ديني «على السليقة»، يكشف عن الكثير من العادات التي لم تكن تتوقعها، فسكان القرية ينذرون النذور للإمام علي، وبعضهم يعتقد أنه الشافي من أمراض عديدة أو حالات ميؤوس منها، رغم أنهم «من أهل السنة».
قصف ورعب وتكاتف
ما أن صار التهديد بضرب العراق أقرب إلى الحقيقة، حتى حطت عشرات العائلات البغدادية رحالها في القرية لتجنّب خطر البقاء في العاصمة خلال القصف واتخاذها ساحة للقتال. بعد بدء القصف وسقوط بغداد، وصل بعض أفراد العائلات حفاة من دون أمتعة. واستقبلهم أهالي القرية، ووزعوهم في ما بينهم.
وسط هذه الأجواء الحميمة، تساءلت كاظم، هل يمكن أن يأتي يوم تفكر فيه هذه القرية أو سواها بقتل أو إيذاء من كانوا ضيوفاً مكرمين لديها؟ أو يقوم أولئك الضيوف بقتل أو إيذاء مستضيفيهم؟ آنذاك، صار معتاداً أن تستيقظ القرويات فجراً، يشعلن النار من حطب قمن بجمعه مع نهارات فصل الصيف. يشجرن التنانير للخبز ويهيئن الجمرات للشاي. قامت النسوة بخدمة الضيفات القادمات من المدينة ومساعدتهن على تقبل الظروف المعيشية الصعبة، ولا سيما عندما كان القصف يشتد، وتحلّق الطائرات فوق القرية، وتصل إلى مسامع أبنائها شائعات عن احتمال حدوث إنزال جوي.
حلقات ما بعد الحرب
كانت كاظم قد تعرّفت إلى طباع أهل القرية جيداً، وتعرفت أكثر على أساليب تفكيرهم. وعندما انتهت الحرب، وجدت لديهم إحساساً رهيباً بالحزن والألم، يصل إلى حد البكاء على عراق الأمس. لم تجد بينهم من يشعر بالفرح أو الشماتة على الأقل لسقوط نظام ظالم، اختطف خيرة شبابهم لتسحقهم رحى الحروب، وحوّل الخريجين منهم إلى سائقي تاكسي أو أعادهم إلى الزراعة بانتظار الحصول على وظائف، لن تكون بمتناول أيديهم يوماً. إنها تعرف أكثر من غيرها أنهم لم يكونوا من المستفيدين من هبات وعطايا الرئيس السابق، بل على العكس، كانوا متضررين لإبعاد أبنائهم عنهم، وإجبارهم على الانتماء إلى الجيش الشعبي أو جيش القدس وإدخالهم في معسكرات واستعراضات وغيرها.
هكذا كان الحال خلال دخول الأميركيين إلى العراق، وبعد دخولهم بكى أحد «الرفاق» البعثيين طويلاً. وحين سئل إن كان سبب بكائه هو حزنه على هزيمة صدام، قال: «أنا أبكي الكرامة العراقية الضائعة. أبكي وقوعنا تحت الاحتلال بعد استقلالنا الوطني، ويبكيني أكثر شعوري بأن صدام كان أفضل أداة ساعدت على وصولنا إلى ما وصلنا إليه. نحن ضحية دائمة لكل الطغاة».
خلال تلك الأيام، عاد العسكريون. وصلوا مشياً على الأقدام، متنكرين غالباً بالزي العربي التقليدي، وقد طالت لحاهم وشعور رؤوسهم وتورمت أعينهم من السهر. قال المقدم إبراهيم محمد، الذي خرج سالماً من معركة ضارية في مدينة السماوة: «لا تصدّقوا ما يعدونكم به. فمن جاء أدهى ممن رحل. لقد خاننا القادة الكبار. أغلبهم لم يقاتلوا، واضطررنا إلى الانسحاب. شعرنا بالوحدة، وبأننا نقاتل من دون تخطيط أو خطة مدروسة أو عتاد كاف. كان أغلبنا يموت وهو لا يدرك سبب موته، ومن بقي لا يريد أن يصدق أنه تحوّل إلى مجرد شخص مخذول بعد أن كان جندياً أو آمراً عسكرياً».
سقطت الأقنعة
بعد توقف القتال وانتشار الأميركيين في بغداد والمحافظات وهروب المسؤولين الكبار واختفاء الأمن والمخابرات، غادرت العائلات النازحة القرية عائدة إلى منازلها، وعادت القرية لتمارس حياتها الطبيعية.
وبعد يومين من دخول الأميركيين واحتلال بغداد، صحت القرية على حدث هام في تاريخها، تمثّل بإباحة المخازن الكبرى في مناطق الدباش وأبي غريب والحصوة وغيرها للناس. وقيل إن جنوداً أميركيين كسروا أقفالها، ثم قاموا بدعوة الناس لدخول المخازن وأخذ ما يودون أخذه «لأن هذه الأشياء تمثّل حصتهم من النفط التي حبسها عنهم صدام حسين طويلاً». صدّق البعض هذه الحكاية، ولم يهتم البعض الآخر بتصديقها أو تكذيبها أمام إغراءات البضائع التي كانت مخصصة لتجهيز الأسواق المركزية وبضائع أخرى تستوردها شركات إنتاجية وصناعية كالسيارات والأجهزة الكهربائية والمواد الإنشائية وما شابه. وهكذا، انقض الناس على المخازن غير عابئين حتى بسقوط بعضهم برصاص الأميركيين أنفسهم، أو نتيجة لصدامات قاتلة بين الناس أنفسهم.
ويصف رجل من أبناء القرية ما شاهده بمرارة قائلاً: «ذهبت لأبحث عن شقيقي الأصغر بعدما علمت بما حدث، وقيل لي إن البعض ذهبوا ضحية الجشع ونقص الإيمان والمبادئ فاضطررت إلى اللحاق به هناك، رأيت ما لم أره في حياتي، لاحظت نظرات جديدة في عيون الناس المنقضين على المخازن. خيل إلي لوهلة أن إحساسهم بإنسانيتهم تلاشى إلى حد ما، وأن الغريزة الحيوانية وشريعة الغاب تغلبت لديهم، فصار ممكناً أن ترى أشخاصاً يقتلون شخصاً حصل على سيارة حديثة، ثم يلقون بجسده وسط الزحام ويأخذون السيارة ليصبح ضحية للأقدام المسرعة للحصول على غنائم اكثر وأغلى».
كان مشهداً مخزياً دام بعد ذلك أياماً وأسابيع. وصار المترفعون عن السلب والنهب معدودين على الأصابع، وحين يعترضون على ما يحدث يرد عليهم أحد «الأثرياء الجدد» بصيغة العالم بكل شيء: «لنستمتع بحصتنا التي حرمنا منها صدام طويلاً ولنعش حياتنا».
أثار أمر هؤلاء الناس الاستغراب، فقد كانوا سعداء تماماً بممارسة الدور المشين لمجرد إشباع رغبات مكبوتة، كقيادة سيارة حديثة جداً أو تناول أغذية معلبة أو جلب أثاث وأجهزة كهربائية لمنازلهم. لم يعد أحد منهم يتذكر وقت الصلاة أو يستمع إلى النصيحة. وبعدما تعدّدت الإصابات والحوادث الغريبة في المنطقة أشيع بين النساء تفسير مفاده «أن الله ينتقم ممن سلبوا ونهبوا باختطاف أحبتهم أو تعرضهم إلى حوادث مميتة أو خطرة».
لا صدام... و لا أميركيين
الغريب أن رجال الدين في المساجد طالبوا الناس بإعادة المسروقات إلى الجامع أو إلى أماكنها ليسقط الذنب عنهم، ولم يذعن لذلك إلا نفر بسيط منهم. أما أبو أحمد، مثلاً، وهو رجل غني أصلاً لاتساع أرضه وكثرة مواشيه وامتلاكه سيارتين يعمل فيهما اثنان من أبنائه العديدين، فقد صرح رداً على أمنية أطلقتها عجوز بأن يعود صدام حسين ليقضي على هذا الانفلات قائلاً: «لا أريد عودة صدام، ولا يهمني بقاء الأميركيين أو ذهابهم ما دمت حصلت على ملايين لم أكن أتوقع الحصول عليها من عملي وعمل أولادي».
كان أولاد الرجل قد نهبوا سيارات حديثة ومواد غذائية لم تسعها حجرتان من منزلهما الواسع ومواد إنشائية غابت خلفها واجهة المنزل، وعندما بدأ ببيع ما لديه تكدست لديه أوراق مالية شكت من كثرتها باب خزانته الخشبية فانكسرت واضطر إلى شراء قفل كبير ليخزن أمواله في خزانة أكبر.
صورة أخرى
وتمر الايام وتخف حدة السلب، وتبدأ عملية المتاجرة بالبضائع بعدما حصل أبناء القرية، للمرة الأولى، على سيارات حديثة متشابهة من المخزن نفسه وأسلحة متنوعة غصت بها المنازل، وراح ضحيتها أطفال وأبرياء نتيجة الإهمال. كان لعمليات السلب فوائد كبرى بالنسبة إلى من تقبله من الناس. من خلالها تمكّن بعضهم من بناء منازل ضخمة أو إكمال النقص في بيوتهم، إضافة إلى إمكان الزواج وشراء الأجهزة الكهربائية، ولم يعد غريباً رؤية الصحون اللاقطة فوق سطوح المنازل القروية أو التفرج على أقراص مدمجة داخل المنازل، وخصوصاً أن بساطة القرويين صورت لهم أن هذه الأجهزة هي مجرد وسائل للبحث عن مشاهد تلبي رغباتهم، حتى لو كان ذلك على مرأى ومسمع من زوجاتهم وبناتهم على اعتبار أنهم حرموا طويلاً أشياء كانت متاحة للدول الأخرى على سبيل المثال.
ويقول المهندس الزراعي في القرية أحمد سليمان: «أحدثت هذه العملية تخلخلاً اجتماعياً خطيراً. وأولئك الذين ابتعدوا عن الدين والقيم والمبادئ أثناء السلب أصبحت لديهم نمطيتهم الخاصة في الحياة، لأن المال الحرام يجر إلى الحرام، وهكذا تشكّلت مافيات لديها إمكانات مالية وأسلحة، لاستخدامها ضد كل من يعترض طريقها».
بينما هناك شريحة أخرى برزت في القرية تختلف تماماً عن الشريحة الأولى، وتتكون من أفراد منعهم إيمانهم وتقاليد مجتمعهم من إدخال المال الحرام إلى منازلهم، ترافق ذلك كله نقمة على المحتلين الذين عملوا على إشاعة الفساد في البلد مستشهدين، بما فعله «الفرهود» (السلب).
بدأت هذه الشريحة بإيضاح الصورة للآخرين، الذين يتهمونهم بموالاة النظام السابق، فهم يرفضون الربط بين الولاء للنظام السابق ورفض الاحتلال، والبحث الجاد عن أمل حقيقي يسير العراقيون وراءه، يساندهم في ذلك رجال الدين الذين رأوا أن الأميركيين كفار مهما حاول الآخرون تجميل صورتهم بإسقاط نظام ظالم و«منح الحرية للعراقيين».
تدريجاً، نشأت في قضاء الفلوجة بالذات عمليات مقاومة استهدف فيها الأهالي الأميركيين بعدما استفزهم دخولهم إلى مدينتهم وتفتيش النساء كما الرجال وإهانة الرجال أحياناً بإسقاط العقال، وهي أعلى درجات الإهانة بالنسبة إلى لقروي، وصارت القرى، وبينها قرية «سيد ابراهيم»، تسمع عن أخبار المقاومة التي امتدت مع الأيام.
ويروي خطيب أحد المساجد في المنطقة، الشيخ محمد عطية أن «هناك حقيقة قائمة يعرفها الجميع، وهي اشتراك ضباط كبار في العمليات، بعد إحباط القيادة العراقية السابقة لهم، ثم حل الأميركيين لوزارتهم، وهم الذين يضعون الخطط ويمدون رجال المقاومة بما طالته أيديهم من أسلحة وأجهزة تساعدهم على إجراء اتصالاتهم في ما بينهم على ذلك، لكنهم جميعاً يرفضون تماماً فكرة اشتراكهم بما يجري حالياً من تفجيرات وعمليات إرهابية تستهدف الأبرياء من العراقيين أنفسهم، ويرونها عمليات مدبرة قد يقف وراءها من يريدون استمرار الاحتلال أو العودة إلى أيام الفرهود».
وعندما قتل أحد أبناء القرية قال شقيقه: «عُرف شقيقي بأخلاقه الحسنة والتزامه بتعاليم دينه. وحين دخل الأميركيون إلى العراق، بدا أمامي حزيناً وناقماً عليهم وعلى صدامهم، وبدأ يتردد على الجوامع ويستمع إلى الخطب الدينية تاركاً العائلة تستعد لزواجه القريب، وذات يوم، نقل إليهم جثمانه من مسجد الفلوجة».
بعد هذا الحدث الذي هز القرية بأكملها، بدأت غالبيتهم تفكر في الحال الذي وصل العراق إليه، وصارت أفكارهم وإحباطاتهم كلها مشروع مقاومة. ولدت وتنامت لتشمل العراق كله.