بغداد – الأخبار
نشأت مدينة النجف المقدّسة لدى المسلمين الشيعة حولمرقد الإمام علي بن أبي طالب في ظهر الكوفة، بعدما ظهر أمره الى العلن في أواخر القرن الثاني الهجري. وقد أوصى، قبل أيام قليلة من اغتياله، بأن يدفن في قبر أعدّه بنفسه، واشترى ما حوله في ظهر الكوفة (النجف حالياً)، بالقرب من قبري النبيين؛ آدم ونوح

يستخدم الإعلام العالمي والعربي مصطلح «المدينة القديمة» للنجف للدلالة على المحلات الأربع المحيطة بضريح الإمام علي، وهي «البراق» و«المشراق» و«الحويش» و«العمارة»، التي كانت محاطة بسور سميك مبني من الآجر والجص. وقد أُُنشئ السور لتحصين هذه المحلات من غزوات واعتداءات خارجية استهدفت المدينة على مر العصور.
وفي عهد النظام السابق، أمر الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين بإزالة هذا السور، لكن، اليوم، وبعد تعرض النجف لاعتداءات وتفجيرات (أشهرها التفجير الذي أودى بحياة الزعيم السابق للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية آية الله السيد محمد باقر الحكيم وأكثر من ثمانين من المصلين قرب ضريح الإمام علي عام 2003) قامت الإدارة المدنية في النجف بإحياء السور من جديد، فعمدت الى إغلاق المنافذ الرئيسية والفرعية للمدينة القديمة، من خلال نصب 32 بوابة حديدية حول محيط المحلات الأربع، وتكليف فوج التدخل السريع بحماية هذه المنافذ.
خمس بوابات
يقول المواطن العراقي حيدر آل سلمان، من سكان محلة «الحويش» الواقعة ضمن سور النجف، إن «السور كان يضم خمس بوابات كبيرة من جهات عديدة، تفتح صباحاً وتغلق مساءً، لدخول وخروج الناس منها، وكثيراً ما كان القادمون الى النجف يبيتون ليلتهم خارج السور عندما يجدون الأبواب قد أُغلقت في وجوههم مساءً. وترتفع إلى جوانب من السور، الذي يحيط بالمدينة على شكل سوار، أبراج للمراقبة وفتحات للحراسة. و كان جبل الحويش الحالي داخلاً ضمن السور، ويُعدّ نقطة مراقبة ورصد لعلوه وهيمنته على الاراضي الواقعة خارجه».
ويضيف آل سلمان إن بناء سور النجف القديم «يرجع الى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، عندما كان من أبرز أبوابه باب اشتابية، أو ما يعرف بالباب الصغير المطل على منطقة بحر النجف وواحات المدينة، ومن هذا الباب انطلق عدد من ثوار انتقاضة النجف عام 1918 (ثورة العشرين)، عندما فرض الجيش البريطاني حصاره على المدينة، الذي دام أربعين يوماً، وكان الثوار ينقلون الرسائل والعتاد عندما تسللوا من هذا الباب».
ويذكر عدد من المسنين النجفيين ان كل باب كان الى جانبه مركز للشرطة العثمانية، كان يطلق عليه اسم «القولق».
أما المصادر التاريخية، فترجّح ظهور اول سور محيط بالنجف، وخاصة في المنطقة التي تضم ضريح الإمام علي، الى القرن الثالث الهجري، ويليه سور آخر في القرن الرابع الهجري.
وذكر الباحث العراقي الدكتور علي كريم سعيد، في كتابه الموسوم «النجف بين ثقافتين: البرية والمدنية»، أنه في سنة 170 للهجرة و«بعد ظهور القبر الشريف للإمام أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) تمصّرت النجف (أي صارت أمصاراً)، واتسع نطاق العمران فيها، وتوالت عليها عمليات الإعمار شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت مدينة عامرة، وقد مرت عمارتها بثلاثة أطوار.
الطور الأول: طور عمارة عضد الدولة البويهي، الذي امتد من سنة 338 هجرية إلى القرن التاسع الهجري، وهو يمثل عنفوان ازدهار مدينة النجف، حيث شيّد أول سور يحيط بالمدينة، ثم بنى أبو محمد بن سهلان، الوزير البويهي سنة 400 هجرية، السور الثاني للمدينة.
وفي الطور الثاني، الذي يقع بين القرن التاسع وأواسط القرن الثالث عشر الهجريين، أصبح عمران المدينة قديماً وذهبت نضارتها بسبب الحروب بين الأتراك والفرس.
أما في الطور الثالث، وهو العهد الأخير الذي يبدأ من أواسط القرن الثالث عشر الهجري، ففيه عادت إلى النجف نضارتها وازدهر العمران فيها، وحدث فيها الكثير من التغيرات العمرانية والثقافية والخدمية، بعدما كانت قضاءً تابعاً لمحافظة كربلاء».
وفي السياق، تذكر مصادر تاريخية أيضاً أنه «في سنة 1810 ميلادية، أمر الصدر الأعظم نظام الدولة محمد حسين خان العلاف الوزير فتح علي شاه القاجاري بتشييد أضخم وأقوى سور للمدينة. وفي سنة 1931 ميلادية، فتحت الحكومة المحلية، في عهد القائم مـقام السيد جعفر حمندي، خمسة أبواب في سور المدينة، وخططت الساحة الكبيرة في جنوبها، وأقام التجار وأهالي المدينة القصور والدور والمقاهي والحدائق والحوانيت».
إزالة سور النجف
وعن تاريخ غزالة سور المدينة القديمة، قال آل سلمان إن نظام صدام «عمد، في بداية عقد الثمانينيّات من القرن الماضي، الى ازالة هذا السور، واستبداله بمدرج لا يمت الى تراث المدينة بصلة. وكان قرار الحكومة آنذاك مثار غضب وردود الأفعال مستنكرة لعملية التجاوز على تراث وتاريخ المدينة، حيث أعرب المهتمون بالتراث في الداخل والخارج وأهالي النجف المعتزين بتراثهم، عن رفضهم إزالة السور، الذي كان يحيط بما يعرف اليوم بالمدينة القديمة».
كما يشير الباحث علي كريم سعيد، في ما يتعلّق بإزالة السور أيضاً، الى أن مدينة النجف «الجبارة العصية على الأعداء، قاومت زحف السلطات المختلفة نحوها، وأدركت أنّ خضوعها لضغط القوة إنّما هو بداية التغلب على العراق بأكمله، فقاومت وأطاحت رؤوس المبعوثين والولاة وضباط الحملات، وخاضت حروباً وحصارات ضد جيوش الاحتلال، واضطُر أبناؤها إلى أكل المِيتة، وشرب مجّ الماء، وبناء أسوار هدّمت حكومة صدام حسين آخرها: سور النجف من طرف البراق والحويش، وقد كان سكانها يحتمون خلف جدرانه، درءاً للخطر الآتي من الجيوش الغازية. كما تصدعت جوانب أخرى من سور النجف عام 1920، خلال حصار الجيوش الإنكليزية لها، وإعلان الجهاد والحرب ضدها».
ووصف الباحث قرار هدم السور في الثمانينيّات من القرن الماضي بأنه «من أسوأ قرارات الحكومة العراقية، التي لم تحتمل أن يكون للمدينة سور يفتخر به الأبناء، ويشهد لهم عندما يروون للأجيال تاريخ صبر وكفاح الآباء والأجداد».