strong>القدس المحتلة ــ فراس خطيب
«شوارع القدس العتيقة»، أغنية فيروزية مترسخة في الوجدان العربي. لكن ما لا يعيه المواطن العربي هو أن الاحتلال الإسرائيلي للمدينة أغرقها حرفياً في «العتق»، بعدما أمعن فيها إهمالاً وحصاراً واستيطاناً، في ممارسات، زادت من عزلتها، تمهيداً لمحوها من ذاكرة أهلها

  • سكّانها «أيتام»... و«ملامحها ثقيلة تماماً مثل تاريخها»

    حافلة الركاب المسافرة من حيفا إلى القدس أقرب إلى ثكنة عسكرية. رؤوس البنادق المتناثرة في فضاء الحافلة تشوّه مشهد الشاطئ الممتد على طول «الشارع السريع»، الواصل بين حيفا و«عابر إسرائيل» المؤدي إلى المدينة المحتلة.
    يظل الراكب المدني الجالس إلى جانب أحد الجنود، رهينة تخوّف وسيناريوهات متخيلة من أن تفلت رصاصة من دون أن ينتبه صاحبها، الغارق في نوم عميق وعلى أذنيه سماعات موسيقى. مشاهد تجعل من السفر مهمة صعبة إلى حين الوصول إلى الأصعب.
    الدخول إلى محطة الحافلات المركزية في الجانب الغربي من المدينة المحتلة لا يختلف كثيراً عن الدخول إلى المطارات الدولية: حرّاس ورجال أمن وأجهزة تفتيش متطورة إلى حد السخافة. العربي القادم إلى القدس الغربية مهدّد بأي لحظة بسؤال عن «الهوية الزرقاء».
    السير هناك من دون هوية يعني السفر من دون جواز، وإن كان العربي «يبدو عربياً أكثر من اللازم»، يخضع لتفتيش علني، من شرطي إثيوبي أو روسي بالكاد يتقن أربع كلمات بالعبرية، وأحياناً لا يتقنها.
    القدس مدينة باردة، طقساً ومجازاً. ملامحها ثقيلة تماماً مثل تاريخها. السير من القدس الغربية إلى الشرقية هو سير صامت، يختفي منه صخب المدن. غالبية السكان اليهود متدينون يرتدون الأسود في كل الفصول، هم أقرب اليهود إلى صورتهم في الكاريكاتورات.
    المباني هناك حديثة، لكنها بنيت على الطريقة القديمة. العمارات ليست شامخة، والبيوت كلها مغطاة بالحجر، ربما للحفاظ على امتداد تاريخ المدينة الأسطورية الحجرية، لكنَّ هذا الامتداد يسقط عند الوصول إلى البلدة القديمة. الحجارة التاريخية عند باب العمود تمحو تاريخ المدينة الحديثة، منذ النظرة الأولى.
    strong>الموت ما بعد الظهيرة
    الطريق إلى باب العمود في البلدة القديمة يعني السير على «الطريقة المقدسية»: أطفال يبيعون القهوة العربية، ينادون بأعلى صوتهم، لهجتهم مقدسية ملحنة، ورائحة كعك السمسم المخبوز للتو تنبعث من العربات؛ موسيقى صاخبة تخرج من محلات بيع الأشرطة، وسائقو سيارات الأجرة مبتسمون يمازحون ركابهم، على غير عادتهم في ساعات النهار. الحياة تنبض. هكذا دائماً، الأمل يأتي مع الصباح، مع إشراقة الشمس الأولى على مدينة الأسوار، لكنَّ القادم من بعيد يدرك، أنَّ مشهد القدس القديمة هذا، ورغم نشوة الصباح، صار أكثر فقراً.
    على مدخل باب العمود يقف عجوز من وراء بسطة كعك السمسم، وإلى جانبه ثلاثة جنود مدججين بالسلاح ينقضون على سلة توت صغيرة. الجنود جزء من مشهد البلدة القديمة، «هم خصوصية السوق»، قال شاب مقدسي مشيراً بيده إليهم. «تخيل السوق من دون جيش وشرطة وجنود؟»، قال ضاحكاً. نظر إليه أحد الجنود نظرةً حادة، وعاد إلى التهام التوت بعد لحظات.
    لم يشهد السوق، قلب المدينة النابض، أياماً سوداء كتلك التي يعايش اليوم. التجوال بين أسوار البلدة القديمة ينتزع «القدس العتيقة» من الشعارات ليجعلها رهينة لواقع يختلف عن صورتها في سلسلة الأحلام السياسية.
    الناس يعشقون القدس، عشق الوطني للرموز ومكان الولادة، لكنَّهم متعبون، يشعرون بالعزلة؛ الحوانيت تزداد إغلاقاً واكتظاظاً في كل الاتجاهات، ومستوطنون يتجولون بسلاحهم من دون أن يردعهم أحد.
    «أعود أكثر قهراً»
    على عتبة أحد الحوانيت، في السوق، تجلس أم علي، امرأة فلسطينية تجاوزت الخامسة والسبعين. سحنتها سمراء، ووجهها متعب. كانت تنظف «العكّوب» (أكلة ربيعية شائكة) بمقص حديدي وسواد شوكه يلتهم يديها.
    لا تمتلك أم علي تصريحاً للتجارة، ولا حتى للبقاء في القدس، تبيت في «مكان ما» في القدس، وتعود إلى منزلها «عندما تتاح الفرص». تعيش في قرية قضاء بيت لحم. تأتي تسللاً إلى القدس. لها ثلاثة أبناء. حين نسألها كيف تخاطر ولا تخاف، تبتسم، «ماذا سأفعل؟ زوجي استشهد في الـ 67، وابني أسير في إسرائيل والثاني يعيش في الأردن، وابنتي مقعدة وزوجة ابني مدرسة لم تحصل على راتبها منذ أن صعدت حكومة حماس».
    السوق في «طريقه إلى الموت»، يقول أحد التجار، الجالس برفقة ثلاثة عاطلين من العمل خارج «الدكان السياحي». يلعبون الطاولة. يقول: «لم أبع شيئاً منذ الصباح، لكنّي آتي كل يوم لأشعر بأنَّي قادم إلى العمل. أعود إلى البيت بعد نهاية كل يوم كما خرجت بالضبط، لكن أكثر قهراً».
    السوق في البلدة القديمة يعني القدس. إذا كان مكتظاً فهذا يعني أنَّ الحياة تنتعش أكثر، والعكس صحيح.
    شهدت القدس خلال الأعوام الماضية مضايقات «متقنة»؛ البلدية تضيّق على التجار من الداخل. الشرطة شرطة الاحتلال، ومتى أرادت، تمنع دخول المصلين إلى البلدة القديمة أيام الجمعة، أكثر الأيام انتعاشاً. في المقابل، البلدية لا تراعي «منع الزبائن عن السوق» وتتعامل بـ«يد من حديد» لانتزاع الضرائب العالية من السكان والتجار.
    عزَلَ «جدار الفصل»، الذي بنته إسرائيل حول المناطق المحتلة، ما يقارب 60 ألف فلسطيني من قضاء القدس ليكونوا خلف الجدار، وقطعت عنهم الطريق نحوها. «كانت الضفة الغربية بأكملها تأتي إلى هنا، لكنهم ممنوعون اليوم. وكلما خفَّ الزبائن نجبر على رفع الأسعار لنسدد ديون الشهر المتراكمة، ما منع عنا أيضاً فلسطينيي 48 الذين يشكون من السعر الباهظ. ولا بصيص أمل»، يقول صاحب محال للحلويات، مضيفاً: «يفعلون كل هذا لكي نملّ الحياة ونبيعهم أرزاقنا ونترك القدس».
    ستار أكاديمي
    الناس في القدس يشعرون جيداً بغياب فيصل الحسيني، حامل ملف القدس المحتلة. «منذ أن مات الحسيني نشعر كأننا أيتام»، يقول رياض الشهابي، شاب من مثقفي البلدة القديمة. على السلطة برأسيها، الفتحاوي والحمساوي، التوقّف عند هذا السؤال الصارخ.
    صلاة الظهر انتهت، برد مدينة القدس يتسلل نحو زواريب السوق وبين أسوارها. البرد ثقيل للغاية. العودة إلى باب العمود هي عودة ثقيلة. الحوانيت تغلق أبوابها، يأساً من نهار لا يزال في منتصفه، لكنَّه انتهى بنظرهم. السائحون قلّة. مشهد لم يكن مألوفاً في تلك التحفة التاريخية المقدسة. مدخل كنيسة القيامة خالٍ، ولا زائرين في درب «الآلام»، والغالبية ممنوعون من زيارة المسجد الأقصى. صارت البلدة كلها «درباً للآلام».
    أولاد يلعبون بين الأسوار، يخلقون مكاناً من اللامكان. والشبّان ينزحون إلى خارج الأسوار. «البلدة القديمة تملؤها كاميرات الشرطة، وكأننا في ستار أكاديمي»، قال أحدهم، مشيراً إلى أن الشرطة «ترصد كل حركة لنا وتعتقل الشبان من بعدها».
    في هذا المكان تحديداً، ووسط الحي الإسلامي في المدينة، اشترى أرييل شارون بيتاً. لم يسكنه، لكنَّه كان «رمزاً» على النيات الإسرائيلية وتشجيعاً على الشراء. الناس يخافون من نجاح المخطط وإخلاء القدس القديمة من ناسها.
    المدينة تسقط سقوطاً بطيئاً والمفاوضات «الموعودة» تمنح السقوط متسعاً. القدس اليوم لم تعد كما كانت. هي حلم لا طبيعي، يساهم معظم أنظمة العرب والمسلمين في تطبيع لا طبيعيته. وبدل من أن يعيش أهل القدس تحت حماية أسوارها، باتت الأسوار تحتمي بأهل القدس.


    ... وعادوا خائبين
    «معركة الصمود»

    يسكن بين أسوار البلدة القديمة ما يقارب 42 ألف نسمة: 35 ألف مسلم و4500 مسيحي و3500 يهودي، معظمهم مستوطنون دخلوها بعد احتلال عام 1967، وتسكن غالبيتهم في «الحي اليهودي». المخططات لإفراغ أهلها العرب جعلت من الحياة داخل السور «معركة صمود»؟ «لم يبق بيت في هذا المكان إلا ودفع اليهود مقابله أموالاً طائلة، مرةً واثنتين، وثلاث، لكنَّ الموت أفضل»، يقول أبو أحمد، أحد سكان البلدة القديمة. اتبع المستوطنون أسلوباً جديداً لشراء البيوت عن طريق عملاء لهم، يكونون بمثابة طرف ثالث، يشترون البيوت ويبيعونها مرةً أخرى إلى الجمعية اليهودية. فضحت هذه الممارسات، لكنَّ هذا لم يقطع استمرارها.

    غائبون ومغيبون

    ... وهكذا، تحوّلت الحياة في القدس إلى «معترك بقاء» أمام المخططات، وكما الحال في كل معركةٍ، لا يخلو الأمر من المنكسرين، فقد اشترت المجموعات اليهودية في العام الأخير أكثر من 46 بيتاً منتشراً في البلدة القديمة. منهم من انكسر أصحابها وباع، ومنها من يتبع حسب التعريف الاسرائيلي إلى «أموال غائبين» تمَّ الاستيلاء عليها بعد موت مالك البيت. ومنها قيام المستوطنين بتزوير عقد شراء وبيع بعد فقدان صاحب البيت.
    وتدور في القدس قصة قديمة عن شخص «باع بيته لليهود»، اتفق معهم على أن يأخذوه بعد وفاته. وبعد أيام من توقيع العقد، وجد مقتولاً بالرصاص وتمَّ الاستيلاء على بيته.

    «رائحة الاستيطان»

    المارّ بالقدس القديمة يدرك جيداً أنَّ «رائحة الاستيطان» في ازدياد مستمر، وخصوصاً في الحي الإسلامي. يتجولون بـ«حرية» بين أزقّة البلدة القديمة من دون رادع. مدججون بالسلاح. ترى من لا يملك سلاحاً محاطاً بحراسٍ مسلحين من الجانبين. «يعيثون بالأرض فساداً»، قال خالد، من سكان البلدة القديمة، استولى المستوطنون على بيت فوق بيته: «لا يريحوننا، لا بالليل ولا بالنهار. أعيادهم لا تنتهي. ضجة ومضايقات، ومنهم من يقترب إلى الباب ويشبعنا خبطات على الأبواب والشكوى لله».
    ويروي شاب لا يذكر اسمه أنَّ المستوطنين كسروا أنبوب المياه الآسنة على مقربة من بيته، وظلت المياه القذرة تصب داخل البيت. عندما طلب منهم إصلاح الخلل قالوا له «إذهب إلى البلدية»، وظل يعاني إلى أن «حنّت البلدية» كما قال.
    الناس خلف الأسوار يشعرون بالعزلة. ملف القدس صار «منسياً» في ظل واقع لا يحتمل النسيان. يقول صاحب أحد البيوت: «متى سنصحو؟ عندما تصبح القدس خالية؟ نخاف من أن ينجح اليهود بمخططاطتهم وهم في طريقهم إلى هذا أمام صمتنا». ويقول آخر: «لا أحد يسمع صوتنا. لا في السلطة الوطنية ولا في العالم وإسرائيل تستغل الموقف».