حسن عبد الساتر

شكل العراق بعد أحداث 11 أيلول 2001، بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، البوابة الرئيسية لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، والمسرح العملي الأساسي لوضع نظريات المحافظين الجدد موضع التطبيق، ولا سيما النظريات العسكرية والأمنية. بل يمكن القول، إن العراق، بعد 11 أيلول، كان المحطة الاستراتيجية الأولى لإطلاق مشروع القرن الأميركي الجديد على المستوى الدولي.
اليوم، بعد مرور خمس سنوات على هذه الهجمات، كيف هي حال العراق الجديد؟ وهل حققت الولايات المتحدة أهدافها الأساسية من وراء احتلالها هذا البلد؟ فيما بات واضحاً أن هذا البلد يعيش أعراض حرب أهلية، حصد عشرات آلاف القتلى، وبوادر تقسيمه تلوح في الأفق، بعدما أصبحت الفيدرالية المزعومة مشروع قانون أمام مجلس النواب، والعلم العراقي ممنوعاً في الشمال، بانتظار الاتفاق على علم جديد.
على المستوى الاستراتيجي، وربطاً بتداعيات 11 أيلول 2001، نجد أن الإدارة الأميركية فشلت في تحقيق أهدافها باحتلال العراق، ويأتي على رأسها الحرب الوقائية أو مذهب بوش، الذي شكل الأداة الاستراتيجية الأميركية الجديدة لمرحلة ما بعد 11 أيلول، وتحقيق مشاريع ونظريات المحافظين الجدد، كـ «الصدمة والرعب»، لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد وغيرها من نظريات طبقت جميعها في هذه الحرب، وقد سقطت كلها نتيجة حرب الاستنزاف الدامية التي تتعرض لها قوات الاحتلال. وتكفي الإشارة هنا إلى عجز آلة الحرب الأميركية المتطورة عن التغلب على العبوات المحلية الصنع، المسؤولة عن نصف قتلى الجنود الأميركيين، واستراتيجياً، الإشارة إلى أن حرب العراق، أثبتت ضعف الجيش الأميركي في القتال البري، وعدم قدرة «القوة العظمى» على شن حربين دوليتين في آن واحد، وخصوصاً على مستوى تجنيد المزيد من قوات الاحتياط.
وينسحب الفشل على الصعيد العسكري على المستويات الأخرى السياسية والاقتصادية، فلم تستطع واشنطن صياغة عراق جديد، ليبرالي علماني حليف للكيان الصهيوني يمثل النموذج لدول الشرق الأوسط الجديد، بل خلقت نظاماً طائفياً تدير من خلاله حرباً أهلية، تفاقمت حدتها بعدما اضطرتها التطورات الإقليمية إلى تغيير تحالفاتها في الداخل العراقي.
أما اقتصادياً، فقد بات ما تحققه أميركا وشركاتها من أرباح في العراق اليوم، يساوي أو يقل عما تقوم بصرفه على تكلفة المخاطر والحماية الأمنية، وهو ما أدى إلى صرف موازنة إعادة إعمار العراق (أكثر من 11 مليار دولار) على الملف الأمني من دون القيام بشيء يذكر، ولو بتأمين الكهرباء للعراقيين.
سياسياً، لم يسعَ الاحتلال يوماً إلا لتحقيق أهدافه ومصالحه على حساب المصالح الوطنية العراقية، وبات تدخله اليومي في الشؤون العراقية عامل إجهاض مستمر لأي مشروع وطني عراقي أو لأي قاسم مشترك قد يتوصل إليه العراقيون في ما بينهم. وما يزيد الوضع تعقيداً وتأزماً، أن تداعيات ذلك كله لا ترتد على العراقيين وحدهم، بل على مشروع الاحتلال نفسه، حيث كلما حاول الخروج من مأزق معين وقع فيه، وقع في آخر وهكذا، وهو ما أنتج دوائر متشابكة لا تنتهي من الأزمات والاختلالات.
فعلى الصعيد الأمني مثلاً، إن المعادلة الحاكمة في العراق اليوم هي على الشكل الآتي: الاحتلال يريد الإمساك بالملف الأمني الرسمي في جميع المستويات؛ القيادية والتنظيمية والتسليحية وغيرها، فيما تسعى القوى العراقية المنضوية في العملية السياسية، وكل من موقعه، إلى تحقيق «ضمانته» الأمنية الرسمية الخاصة به. هذا إذا ما أضفنا القوى غير المشتركة في العملية السياسية التي تفعل الشيء عينه، ولكن بأسلوب شعبي وغير نظامي. هنا، يدور التجاذب والصراع بين الأطراف جميعاً بما فيها الاحتلال، فتكون النتيجة الوصول إلى تسويات تأتي على حساب فاعلية هذه المؤسسات ودورها الوطني، أو غلبة طرف على آخر، وهو ما يؤدي إلى مزيد من الصراعات والاقتتال بهدف فرض رغبة فريق معين على غيره، التي يشارك فيها الاحتلال طبعاً أو يكون هو بطلها.
بات العراق اليوم بمثابة «لعنة كبرى» أصابت إدارة بوش ومخططاته العالمية، فهل تنجح واشنطن في الخروج من هذا المستنقع قبل أن تتآكلها أوحاله؟