strong>أنقذ الاتفاق على تأليف حكومة وحدة وطنية، على ما يبدو، الفلسطينيين من أتون صراع داخلي كاد يتحول إلى اقتتالِ فصائل.لكن المخاض نحو حكومة الوحدة لم يكن سلساً، فقد مر بمنعطفات خطيرة كانت ستؤدي بالقضية إلى منزلقات لا تُحمد عقباها.
حسام كنفاني

هل خرجت الأزمة الداخلية الفلسطينية من عنق الزجاجة بالاتفاق على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية؟ سؤال لا بد من أن يطرحه الفلسطينيون لاسترشاد الخطوات التي تلي، وعدم الاستسلام إلى حالة الارتياح التي أثارها الإعلان، وخصوصاً أن اتفاقات سابقة على «ميثاق وطني»، اصطدمت بتلكؤ فصائلي، سواء من حركة «فتح» أو «حماس»، أوصل الوضع الداخلي إلى حافة الهاوية، التي لا يزال عندها اليوم بانتظار ما قد تسفر عنه مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة، وتجاوز عقبات لا يستهان بها، ليس أقلها عبور معضلة الاتفاق على الحقائب الوزارية، ولعل أخطرها الموقف الدولي والإسرائيلي، الذي قد يطيح أي اتفاق فلسطيني.
والتجارب الفلسطينية مع الاتفاقات الداخلية والمواقف الدولية كثيرة، وأهمها الاتفاق على وثيقة الأسرى، التي عُدت وثيقة للوفاق الوطني في شهر حزيران الماضي، إلا أنها لم تجد طريقها إلى التنفيذ بعد المعارضة الأميركية، وخصوصاً للوثيقة والتعديلات التي طرأت عليها، وهو ما دفع الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى إخراج معظم بنودها من سياق التنفيذ، وهو ما أعلنه وزير الخارجية الفلسطيني محمود الزهار ولم تنفه «فتح»، رغم أن عباس كان قد روّج للوثيقة في بداية طرحها لأنها الخلاص الفلسطيني من الحصار الدولي، الذي فرضته دول العالم بعد تشكيل حماس للحكومة الفلسطينية، كانعكاس طبيعي لفوزها في الانتخابات التشريعية في كانون الثاني الماضي.
وحكومة الوحدة الوطنية هي إحدى بنود وثيقة الأسرى، إلا أنها تأتي اليوم انسجاماً مع الوضع الفلسطيني المتفجّر، أكثر منها تطبيقاً لما ورد في الوثيقة، التي تتضمن بنوداً أكثر أهمية، ليس أقلها إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ومحلية جديدة، وهو ما لا يلقى حماسة من الفصيلين الأساسيين على الساحة الفلسطينية (حماس وفتح)، ولا سيما أن الطرفين يسعيان إلى الاحتفاظ بالمكاسب الحالية (الحكومة والرئاسة)؛ فحركة «فتح» تخشى انسحاب نتائج الانتخابات التشريعية على الرئاسة، و «حماس» تتحسّب من تأثير الحصار التجويعي الدولي على المد الشعبي الذي أوصلها إلى السلطة.
ومفاوضات تشكيل حكومة الوحدة، التي بدأت منذ أكثر من شهرين، دخلت في منعطفات خطيرة، ووصلت أكثر من مرة إلى طريق مسدود، وضع الساحة الفلسطينية على أبواب مواجهة شاملة مع تصاعد حدة الاحتقان الداخلي، بعد الاختلاف على برنامج الحكومة ورئاستها؛ فـ «حماس» أصرّت على الاحتفاظ بقيادة الحكومة الجديدة، فيما كان الاتفاق على برنامجها حجر عثرة، وهو ما أعطى دليلاً إضافياً على نهاية «وثيقة الأسرى»، التي كان من المفترض أن تمثّل البرنامج السياسي الفلسطيني الشامل، إلا أن المعارضة الأميركية والإسرائيلية للوثيقة، أعاد الأمور إلى نقطة البداية، وأدخل «حماس» و«فتح» في مواجهة تفاوضية جديدة، أثمرت في النهاية اتفاقاً، لم تتبلور تفاصيله بعد، رغم تأكيد «حماس» أنه نابع من «وثيقة الوفاق» الفلسطينية.
إحياء أحد بنود «وثيقة الوفاق» وبرنامجها في هذا الوقت، قد يكون رهاناً فلسطينياً من طرفي الصراع الداخلي، على التغييرات التي بدأت تلوح في أفق السياسة الدولية،ولا سيما الأوروبية، في ما يتعلق بإحياء مسار السلام الفلسطيني بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان، وهو ما بدا خلال اجتماع الاتحاد الأوروبي الأسبوع قبل الماضي، وانعكس في تصريحات أكثر من طرف دولي، على رأسهم رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، الذي جاء الاتفاق على الحكومة الفلسطينية مباشرة بعد زيارته إلى رام الله ولقائه محمود عباس.
هذا الرهان، قد يكون له ما يسوّغه، لكن المواقف الدولية، التي صدرت مباشرة بعد إعلان الاتفاق الفلسطيني، لا تبشّر بالخير، ولا سيما مع تجديد التشديد على شروط الحصار الدولي الثلاثة (نبذ العنف، والاعتراف بإسرائيل، والاعتراف بالاتفاقات الدولية الموقّعة بين إسرائيل والسلطة).
الموقف الدولي، وإن لم يكن قد تبلور بشكل واضح بعد، إلا أنه سيكون أساسياً في تحديد مصير الاتفاق الفلسطيني، ووضعه في سياق التنفيذ، وربما إحياء ما تبقى من بنود «وثيقة الأسرى».
الطريق إلى الحكومة
خرجت وثيقة الأسرى إلى العلن للمرة الأولى في 15 أيار الماضي، بعدما وضعها معتقلون فلسطينيون من مختلف الفصائل الفلسطينية في أحد السجون الإسرائيلية، وطرحوها كمبادرة خلاص وطنية من حالة الاشتباك العسكري والسياسي بين حركتي «فتح» و«حماس»، للوصول إلى وحدة الصف الفلسطيني في مواجهة الحصار الدولي والاعتداءات الإسرائيلية.
ورغم أن قياديي «حماس» في الخارج تحفظوا على الوثيقة بدرجات متفاوتة، إلا أنها بقيت منطلقاً وطنياً حظي بتفهم كثيرين في «حماس»، ولا سيما من قيادات الداخل، رغم ما تحتويه من بنود تخرق ميثاق الحركة، وتشكّل تحولاً جوهرياً في البنية التي أُسست عليها حماس، ولا سيما لجهة الاعتراف بالدولة الفلسطينية والمقاومة على حدود العام 1967.
وكان انطلاق الحوار الوطني الفلسطيني في 25 أيار، أي بعد عشرة أيام من ظهور وثيقة الأسرى، «أعرج»، بعدما حاصره محمود عباس بمهلة الأيام العشرة، وشهر في وجهه سيف الاستفتاء، ووضع الفصائل أمام خيار اعتماد تلك الوثيقة كمحور للحوار الوطني والموافقة عليها، أو يدفعها للاستفتاء الشعبي في الداخل.
وكانت «حماس» وعباس يدركان أن إحالة الوثيقة إلى الاستفتاء تحمل بوادر خسارة للطرفين، ولا سيما أن استفتاءات الرأي، التي رافقت إعلان فشل الحوار في مرحلته الأولى في 5 حزيران الماضي، لم تكن مصدر ثقة، استدلالاً بالاستطلاعات التي سبقت فوز حماس في الانتخابات التشريعية، ولم تشر أي منها إلى فوز الحركة بالغالبية.
فكان من الأفضل لحماس وعباس إبداء مزيد من المرونة وتجنّب مواجهة الشارع. وبالاستناد إلى ذلك، دخلت الفصائل في مفاوضات ماراتونية، نجحت حماس بعدها في إقرار تعديلات طفيفة ولكن جوهرية على الوثيقة، وصولاً إلى إقرارها من قبل الفصائل جميعها باستثناء «حركة الجهاد الإسلامي»، التي، وإن دعمت الوثيقة، إلا أنها رفضت التوقيع عليها.
لكن المسافة بين التوقيع والتطبيق كانت شاسعة، وشهدت الأراضي الفلسطينية خلالها مواجهات شبه يومية، وخصوصاً بين القوى الأمنية الرسمية (الفتحاوية) واللجان الأمنية، التي ألّفها وزير الداخلية «الحمساوي» سعيد صيام، لمواجهة فوضى السلاح المنتشرة في الأراضي الفلسطينية، والتي يمكن القول إن عملية أسر الجندي الإسرائيلي والعدوان على قطاع غزة، أنقذاها من الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
وأخيراً، تحوّل المطالب العمالية إلى عنوان للمواجهة، إذ أعلنت النقابات التابعة لحركة فتح الإضراب العام، احتجاجاً على تأخر صرف الرواتب نتيجة الحصار الدولي. كان هذا الإضراب سيؤدي، كما كان مخططاً له، إلى دفع الرئيس الفلسطيني إلى استخدام صلاحيته وحل حكومة حماس، وهو ما يعني حكماً الدخول في مواجهة شاملة في الشارع بين أنصار الحركتين، إلا أن «السوية العالية» والإحساس بالمسؤولية والترفُّع عن الفصائلية، سواء من قبل «فتح» أو «حماس»، أنقذ الوضع الداخلي الفلسطيني من انفجار شامل.
التعديلات لم تثمر
التغييرات التي أدخلتها حماس على وثيقة الأسرى، لم تغيّر جوهر مضمونها، الذي يشير إلى البراغماتية التي اعتمدتها حماس منذ وصولها إلى السلطة، فالإشارة إلى الدولة بحدود العام 1967 لا تزال موجودة، والموافقة على المبادرات العربية والاتفاقات الدولية لا تزال واردة، رغم نجاح الحركة في التخفيف من وضوحها؛
فقد أضافت حماس إلى مقدمة الوثيقة عبارة تقول: «وانطلاقاً من مبدأ أن الحقوق لا تسقط بالتقادم، وعلى قاعدة عدم الاعتراف بشرعية الاحتلال»، أي إنها تمكنت من تثبيت مبدأ عدم الاعتراف بإسرائيل كأساس للوفاق الوطني.
ونصت الفقرة الأولى من الوثيقة الأساسية على «حق العودة للاجئين»، فأضافت إليها حماس عبارة «إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طُردوا منها وتعويضهم».
كما رفضت حماس الإقرار بالشرعية الدولية كما هي، فأضافت إلى عبارة «وما كفلته الشرعية الدولية»، عبارة «بما لا ينتقص من حقوق شعبنا».
ورفضت حماس مفهوم الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية «بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني»، ليصبح النص: «الانضمام (حماس والجهاد والفصائل الأخرى) إلى المنظمة وفق أسس ديموقراطية ترسِّخ مكانة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد».
وكانت الوثيقة الأصلية قد رأت أن التحرك السياسي الفلسطيني يرتكز على عناصر، بينها «الشرعية العربية وقرارات الشرعية الدولية المنصفة لشعبنا»، فأضافت حماس إليها عبارة: «بما يحفظ حقوقه وثوابته». وبدلاً من «تشكيل حكومة وحدة وطنية»، كما نصت الفقرة السادسة من النص الأصلي، أضافت حماس عبارة: «العمل على تشكيل حكومة وحدة وطنية» ، بحيث لا تصبح الحكومة الحالية مستقيلة، بل راعية لعملية تشكيل حكومة الوحدة.
التعديلات هذه حفظت لحماس خط الرجعة إلى ميثاقها، وأبقت أكثر من بند مفتوحاً على التقديرات الداخلية للحركة، على قاعدة أن موازين القوى الداخلية المستقبلية تحدد تفسيراتها، وهو على يبدو ما لم تستسغه الدول الغربية، رغم ما حملته الوثيقة من تعديلات في مواقف حماس، فعمدت إلى إجهاض الوثيقة في مهدها.